متى نتحرر من الأوهام؟
لم أدهش البتة لتصريح رئيس وفد التفاوض من جانب الجيش الشعبي بدولة جنوب السودان اللواء ماجير دينق الذي أكد استحالة عودة الوحدة بين السودان ودولة جنوب السودان ذلك أنّي أعلم ما ينطوي عليه شعب دولة الجنوب من مشاعر مبغضة للسودان وأهله لن يتزحزحوا عنها حتى لو تزحزحت الجبال الرواسي من مواقعها.
نعم لم أدهش لتصريح ذلك الرجل لكنّي أدهش وأحزن وأكاد أموت كمداً كلما أقرأ كلاماً لأحد العائشين خارج التاريخ من النخب السودانية أو السياسيين السودانيين حول احتمال عودة الوحدة مع دولة جنوب السودان حتى بعد أن غادرنا أهلها بمحض إرادتهم وبإجماع ربما لم يشهد التاريخ له مثيلاً.
ليس ذلك وحده ما يفقع المرارة ويفري الكبد إنما يزيدني غيظاً أن شعب تلك الدولة الجديدة لم يُسمّوا قرارهم باختيار وطن آخر بديل للسودان (انفصالا) إنما سموه (الاستقلال) بما يعني أنهم (تحرروا من الاستعمار الشمالي) أو من هيمنة واستعباد (المندكورو) لهم.
ينسى أولئك الواهمون أن دولة الجنوب وشعبها لم يحتفلوا بالاستقلال لأول مرة إلا بعد أن فارقوا الشمال الذي لطالما أبغضوه.
لا أحتاج إلى أن أذكّر بأن الجنوبيين لم يحتفلوا مع الشماليين يوم نال السودان استقلاله في الأول من يناير 1956 إنما قالوا عن ذلك الاستقلال : (لقد استبدلنا سيداً بسيد) بمعنى أن سيداً جديداً هو الشمالي حل محل السيد الإنجليزي الذي جثم على صدر السودان منذ نهاية القرن التاسع عشر وتحديداً في عام 1898 بل أنهم لم يبغضوا السيد الإنجليزي البتة فقد كان ولا يزال أحب إليهم وأقرب.
لم يتحدث أي من قيادات دولة الجنوب الذين قدموا للتفاوض بمختلف توجهاتهم وأحزابهم السياسية عن عودة الوحدة بين السودان ودولة الجنوب مجدداً بالرغم من أن كثيراً من الصحفيين السودانيين ظلوا يمطرونهم بوابل من الأسئلة حول احتمال عودة الوحدة.
أعذر من ظلوا يُلِحّون على هذا السؤال من الصحفيين السودانيين فقد كانوا يتصرفون بتلقائية ساقتهم إليها عواطف الوحدة القديمة التي لم تشبها شوائب العداء المغروس في نفوس معظم النخب الجنوبية، وأقولها بيقين لا يتطرق إليه شك إنه يصعب على السوداني أن يتقمص نفسية الإنسان الجنوبي الذي ملئ بكثير من الإحن والضفائن والمرارات ظل أبناء الجنوب يتوارثونها منذ أن زرعت بل غرست جراء قانون المناطق المقفولة The closed districts act
الذي أصدره الاستعمار البريطاني عام 1922 والذي فصل الجنوب ثقافياً عن الشمال ووصله سياسياً وملأ نفوس الجنوبيين بمشاعر البغض تجاه الشماليين مع فتح الباب على مصراعيه للمدارس التبشيرية لزرع الأحقاد والمشاعر العنصرية المبغضة للشمال والشماليين.
هاكم تصريح الجنرال توماس سريليو رئيس جبهة الخلاص الوطني الذي أجاب عن سؤال ساذج حول عودة الوحدة وجهه إليه أحد الصحفيين السودانيين خلال الأيام القليلة الماضية فقال :(مسألة الوحدة بين الدولتين تخص شعب الجنوب)!
يعني (انتو مالكم ومال الوحدة) ..(نحن الذين نقرر عاوزنكم أم لا)!
شفتوا مقدار هذا اللؤم وهذه الغطرسة؟!
لا مجاملة حتى وهم يبحثون عن السلام في الخرطوم التي يبغضون .. الخرطوم التي قال عنها باقان أموم وهو يغادرها إلى وطنه (ارتحنا من وسخ الخرطوم)!!!
بالطبع ظن كثيرون أن الجنوبيين ندموا على اختيارهم الانفصال بعد أن اندلعت الحرب في بلادهم وفّروا إلى السودان طلباً للأمن والعيش الكريم ولكن هيهات.
فهلا تعلمنا الدرس وهلا أفقنا من الأوهام؟!