روايات وقصص

على العنان رواية ~§| ღ الـهـَـدِيـَّــة ღ |§~

(( هذه القصص.. ألقاها كاتبها في حفل ذكرى مولد أحد المعصومين (ع) في السنة الماضية، في حسينية الرسول الأعظم (ص).. وقد كانت طريقته في الإلقاء رآئعة جداً.. بل تفووق الرووعة.. أعطت للكلمات معنى آخر.. أحببتُ رفعها لكم بالصوت.. ولكنها للأسف عندي مسجلة.. والصوت غير واضح.. فقمتُ بكتابتها ))

(الأب) و (الأم)
.
~|| نعمة من عند الله ||~

* الكاتب الأحسائي/ ماجد القضيب.

عندما يفكر الأنسان في مطامع الدنيا، ينسى أشياء كثيرة، يترك الواجبات، ويسير خلف الملذات، يصبح هاجسه الوحيد، الحصول على ما يريد، يتجرد من عقله، وجسده، والبعض منا يتجرد حتى من روحه..
المتغلب هذه المرة، في محل لبيع الهدايا، يجمع كلمات خطها القدر، على شاكلة باقة من الورود، يهديها لأصحاب القلوب القوية، وضع بداخلها بطاقة، مكتوب عليها: (الهدية)..

واحترتُ في أمري، ماذا أهدي صديقي..؟! فكرتُ ثم قررت، أن أذهب فأشتري ما يقع عليه اختياري، دخلتُ محلاً لبيع الهدايا، بابه مزخرف، وعُلِّقت عليه آية.. (آية الكرسي).. خُطّت بالفارسي..
الورود في داخل المحل تتراقص على رائحة العطر الجميل، تروي حكايات وقصص، لفتاة ذات شعر طويل، وبريق الذهب في الصناديق، وتحفة لُفّت بقماش رقيق، وذا، وكذا، ورائحة شذا..
ثم أن صاحب المحل قال لي، بعد أن صافح يدي، عما يجول في خاطري، كانت عينه قلعة غزاها الأشرار، لم تهنأ بنوم، ولم تعرف الاستقرار، بداخلها دم، وحرب، ينزف من جفن وأب..
فاقتحمتُ تلك البوابة، دخلتُ بين الجلوس، برق ورعود، وكانت لي غاية، وهي أن أسمع منه الحكاية، قال صاحب المحل حكايتي، لا يعرف لها بداية، هي زوبعة بلا حدود، نهايتها نهاية، وبدايتها نهاية، فلتسمعها من النهاية..!

كنتُ صغيراً أتمنى أن أملك كل شيء، أبي كان كريماً كحاتمٍ من قبيلة طيء، وفر لي كل ما أريد، وحضيتُ حينها بكل جديد، ومركب الحياة ينقلنا من بعيد، إلى بعيد..
وآن الأوان للصغير أن يكبر، وللزرع أن يثمر، طلبتُ من أبي أن يشتري لي سيارة، لم يكن لدي غير هذا الطلب، سئمتُ من الهنى، لا أعلم ما السبب، يخبرني ساعة يد، وعلبة عطر بعد غد، وهدايا، وهدايا، وهدايا ليس لها حد..
مرت السنوات والسيارة في ذهني لا تزال، حتى أصبحت بالنسبة لي شيئاً محال، وفي يوم من الأيام، هدوءٌ ليس له مثيل..
أطفأتُ إنارة الغرفة، وفتحتُ باب الشرفة، هدوءٌ ليس له مثيل..
دخل والدي كقمر من خلف السحاب، هدوءٌ ليس له مثيل..
قال أبي: اسمع يا ولدي، هذا آخر عام لك في الدراسة، أريد منك أن تكافح وتثابر، وقد أحضرتُ لك أستاذا اسمه جابر، اجتهد واحصل على علامات جيدة، فإن فعلت فاعلم أن لك من عندي مفاجأة..
غمرتني الفرحة والسعادة، وأخيراً سأحصل على السيارة، ذاكرتُ مادة مادة، كتاباً كتاب، وبعد عناء، انتهى العام الدراسي، قلبي بالنجاح فاز، فقد حصلتُ على الامتياز، بدأتُ أبحث لنفسي عن جامعة، تنقلتُ من مكان إلى مكان..
وفي فجر يوم من الأيام، هدوءٌ ليس له مثيل..
كان ذاك اليوم يوم جمعة، أشعلتُ على طاولتي شمعة، هدوءٌ ليس له مثيل..
طـُرق الباب، دخل والدي وفي يده علبة، قال لي: تفضل..! هذه هي الجائزة بمناسبة نجاحك، أخذتها بيميني، كانت العلبة حمراء محاطة بشريط من الحرير، رفعتُ عنها الغطاء، ووضعته على السرير، كان بداخلها (قرآن كريم)..
بعد هذا، شغلني السؤال لماذا..؟! لماذا وهو يعرف ما أريد..؟! تغيرت ملامح وجهي.. قلبي يخفق.. والشيطان يصفق..
رميتُ ما أعطاني إياه، وقف أبي في دهشة مما رآه، لا أتخيل أبداً تلك الصورة، رميتُ كتاب الله، أين نفسي الغيورة..؟! خرجتُ من البيت أصرخ: السيارة السيارة.. إلى أين..؟! لا أعلم..!
كنتُ أبحث عن نهاية الطريق، وكأني أركض في غابة، يلاحقني ساحر وغرابه، والأشجار قد نشبت فيها الحريق..
قلتُ: يا صاحب المحل، ماذا عن أمر أبيك..؟!
قال صاحب المحل: أبي كبير في العمر، وقف متسائلاً: لماذا خرج ولدي بهذه الكيفية..؟! هل بدا مني التقصير..؟! هل أخطأتُ التقدير..؟! أم وقعتُ حديثاً للأحجية..؟!
وبينما كان أبي محتار.. أصابه في القلب انهيار.. سقط على الأرض وفارق الحياة..
آه وآه وآه..!
أبي..!
أبي يا من هو أصلي ولولاه لم أكن.. من أجلك دائماً أصلـّي.. وكلّ الحبّ لك أكنّ..
أبي نُكست المصابيح.. الكل بعدك جريح.. أحس بالضياع.. بين أنياب الضباع..
يا أول صديق لم يعرف الخيانة.. سور الأسرة أثبتت كيانه..
يا من ربط الله رضاك برضاه.. باب من أبواب الجنة أنت أبي.. عد ولو للحظة واحدة..
الآن..! أم يا ترى فات الأوان..!
تغطت دنيتي بغطاء الحداد، كطفلة مكسورة الفؤاد..
وسفن دموعي على بحر خدّي تسيل، كُسِّرت أشرعتها، وقبطانها أُخِذ أسير..
و أنا الآن متشبث بأحشائها، لعلها تعود بي إلى مرساها..
لكن الرياح غيرت الاتجاه.. لازمتُ المنزل لم أخرج إلى أي مكان..
وماهي إلا بضعة أيام.. ليلاً؛ عند الساعة التاسعة، كان لي لقاء مع الفاجعة..
دخلتُ غرفتي، رفعتُ ذاك الكتاب العظيم، الذي أهداني إياه أبي..
كيف أن بعضنا نسي هذا الكتاب، يوضع على الرف، لا يُقرأ منه أي حرف، مسنوداً على الجدار، يُنفض ما عليه من الغبار..
رُحتُ أقرأ سورة سبأ، ومن قبلها قرأتُ النبأ، وردد لساني حروف سورة التين، من بعدها الطور، وتلتها النور، وهزتني طه وياسين..
ألم يقل سبحانه وتعالى: {لاَ تَنْهَرْهُمَا} فلتشهد الإسراء آية ثلاث وعشرين..

وعندما وصلتُ إلى سورة الرحمن عند قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} أوقفتني العَبرة، حين قرأتُ هذه العِبرة..
سقطت مني دمعة، مكتوب عليها: أبي..!
تذكرتُ حينها ذاك القبر الصغير، وسؤال منكر ونكير، وحدي هناك، ليس معي أحد، تتلى عليّ الفاتحة، و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.
وبينما كنتُ أقرأ، سورة بدأت بـِـ {اقْرَأْ}..
سقط من بين الصفحات.. إعصار لا يرحم العبرات.. ذهلتُ وقلبي انهمّ بالصياح، حين رأيتُ المفتاح، صريعاً بين أحضاني.. مكتوباً عليه اسمي: (مبروووكـ يا ولدي)..
أحبّ أبي أن تقترن هديتي بكتاب الله.. ولكن..! لا زال ألم الذكريات يراودني، وصدى الأحزان يقتلني..
أصبحتُ أكتم الخوف، كسائح وسط الكهف، وها هي جروحي تعكس ما مضى.. ولم يعد لي هناك قمر في الفضا..
أفكر في آخرتي..! جنة..! أم نار لضى..؟! ليت المصيبة تدري بأن عيني دمع من شظى..
قست عليّ الدنيا، لم تقل لي هاتفة، فهل يمعتم عن هدوء، جاء بعد العاصفة..؟!

وبقي صاحب المحل يروي لي القصة..
أما أنا..! فغادرتُ المكان، أجنحتي تصلدت، وأفكاري تبعثرت، كأن كل الكون كان خيال، شيء تغير، لم أكن كما كنت، وكل ما كان، لم يكن كما كان..

ويبقى سؤال يحيرنا دائماً..! ماذا أهدي..؟!
ماذا أهدي أبي..؟! وهل هناك ما يكفي لمن قال عني: هذا قطعة من كبدي..؟!
ماذا أهدي أمي..؟! وهل هناك ما يكفي لمن قيل عنها أن الجنّة تحت قدميها..؟!
ماذا أهدي أخي..؟! وهل هناك ما يكفي لمن هو من دمي..؟!
ماذا أهدي زوجتي..؟! ماذا أهدي صديقي..؟!
ستختلف الإجابات، فالإهداء ليس شرط أن يكون بشيء مخمول..
والحديث في هذا يطول.. حتى أنا يحيرني هذا السؤال: ماذا أهدي..؟!
ولكن ما أعرفه، أنه إذا أعطيت علبة، لا تفكر في قيمتها، أو من أين جيء بها..
لا تنظر في كونها صغيرة أو غنية.. فقط تفحصها جيداً بروية..
فمن يدري..! من يدري..؟! ربما لا تكون هي المعنية..! أو ربما كان أحد أجزائها هو الهدية..!

وعلى نغمات هدوء الليل، مرّ بفكره على المقبرة، كتبوا على جدرانها ما كتبوا..
فقم يجد مكانا ليكتب عليه سوى بابها.. كلمات على باب المقبرة..
قلتُ: أيها الباب، كم من الناس قد دخلوك..؟! ألم يتعضوا أم يا ترى لم يعرفوك..؟!
هل تذكر القصة التي صارت من ثمان سنين..؟! قال الباب: أهو طفل أم امرأة أم أحد المسنين..؟!
قلتُ هي أم كباقي الأمهات، غيابها سرق من القلوب البسمات..
كان ذاك اليوم، يوم عيد.. الكل سعيد.. والسماء قد لبست ثوبها الجديد.. والأطفال يقبلون رأسها ويتمنون لها العمر المديد.. ولكن..! جرت الرياح بما لا تشتهي السفن..
لم يجدوها سوى ممددة ومن حولها الكفن، مرفوعة على الاكتاف، بأصوات وهتاف، ثم يُنزل بها استعداداً للدفن..
أتذكر أيها الباب..؟! كان صباح العيد رائع، ونور الشمس ساطع، والأطفال لحظة يلعبون، وأخرى كأس من الماء يشربون..
وهكذا تدور أحداث ذاك اليوم، من بعد انتهاء ذلك اليوم.. إلى أن جاءت ساعة من ساعات الليل..
الأم إلى دارها ذهبت، والأبناء سهرتهم بدأت.. والثواني تمر، تصنع دقائق، ساعات، وهكذا تستمر، إلى أن حددت ساعة الصفر..
خرجت الأم من الدار بمرضها، لا تستطيع أن تمشي على أرضها، كل شيء كان سريعاً، كان الكون برمته فضيعاً..
وبعد أن ذهبوا بها إلى المشفى، اسمع أيها الباب كيف كل فرد قتلت، من بقي في البيت، خانته كل الحواس، لم يعد هناك سوى صوت الأنفاس، العين أغمضت، واليد أغلقت، والصغار عن الطعام أقلعت، الكل يتكلم بصوت خافت، قلبه خائف، ينتظر صوت الهاتف، أما الولد الصغير، كان طويلاً عليه النوم، فلم يستطع إلا أن يستسلم للنوم..
وأدركه الصباح، فسكت كل شيء عن الكلام المباح، جلس من نومه، ويا للعجب..! انقلب البيت رأساً على عقب، تبكي النساء، تبكي الرجال، والنساء يحرصون، ورجال على رأس الصغير يمسحون..
شخص يقول: عظم الله لك الأجر.. والصغير يقول: ليته لم يظهر عليّ هذا الفجر..
ثم نادى بصوت حزين: أمي..! أمي..! أمي لِمَ أناديك فلا تجيبين..؟! ردي عليّ فأنا اليتيم المسكين، بعدك لم أرى سوى الشياطين، أحلم بذئب ورجل سفاح، والناس من حولي لهم دموع كدموع التمساح، يقتلني صوت الوحوش، أرى على جدار غرفتي كتابات ونقوش..
نعم أيها الباب..! لِمَ تنظر إليّ ورأسك منخفض..؟! قل رأيك ولا تجعله سراً وبه تحتفظ..
نعم أيها الباب..! أنا ذاك الولد الصغير..
كان ذاك العين، خائناً شرير، أصبحت الأصوات أسمعها زئير، أخاف أن أكتب قصتي ويرعبني الصغير،
خرجت..! تمنيت عودتها. غابت..! انتظرت شروقها. تأخرت..! زاد خوفي. ماتت..! أصبح الدمع رفيقي. صار المر غذائي والظلام ضوئي.
اختفى الناس من حولي..
عند خوجك يا أمي في تلك الليلة، خانني كل الكلام، نسيتُ حتى صيغة السلام.
إلى اللقاء أيها الباب..! سأعود ورأسي مرفوعاً إلى السماء، مكفناً بأغطية بيضاء، وسأمكث هنا تحت هذا التراب.
فقال الباب: من أين أيها الشاب..؟! قصتك أبكتني والقمر من حسنه غاب.
لِمَ لا تنحتها على رخام أو صخرة..؟! لِمَ لا تكتب هذه الحروف المؤثرة..؟!
قلتُ: ألا ترى أننا الآن في ساعة متأخرة.. ثم أنني لا أستطيع كتابتها على ورقة.. لأن عنوانها كلماتٌ على باب المقبرة.

.

زر الذهاب إلى الأعلى