سر حبنا لفصل الشتاء
فصل الشتاء ، هو فصل ما قبل الحياة ، فصل الإستعداد لتلك الحياة وتمهيد الأرض لها ، كمن يريد تكوين أسرةٍ فيشرع بإعداد منزلٍ يأويه هو وأسرته ، فصلٌ تتخبط فيه الأرض والسماء ، تثور ، تطلق ما عندها من زخات الحياة إلى رحم الأرض ، فتتلقفها تلك الأرض ، تخبئها في أحشائها ، تسقيها للبذرة الجنين في رحمها لتبدأ بالنمو وتدب الحياة في أوصالها ، لتغدو بعد قليل زهرةً أو شجرة .
وأنا من بعيد أترقب إنبعاث تلك الحياة من أحضان الموت ، فكيف لي أن لا أعشق لحظات التمهيد للحياة وفصل الشتاء ؟ أعشق تجمد أطرافي وأنا أترقب غضب السماء عن كثب ، أعشق لحظة إغراقي بما تقذفه من قطرات لتخترق أوصالي من قساوة برودتها وأنا أحاول الهروب من ذاك البلل ، ولسان حالي يقول لي ، انتظري لا تسرعي الخطى ، وتنظر روحي للسماء صارخةً : هيا إهطلي أغرقيني بخيرك بللي خصرت شعري والجسد ، وازرعي الحياة فيها كما فعلتِ بتلك الأرض .
أعشق حميمية الشتاء لحظة التحلق حول النار لننشد الدفء بعدما فتك البرد بنا ، لحظة ترقب تلك السحب السوداء من خلف البلور تتحد مع بعضها لتبدأ بعزف لحنٍ صاخبٍ تشق السماء بوميض برقها فتزلزل رعدا ، وتتابع الرياح صفيرها برقةٍ تارةً وغضب تارةً أخرى ، وتبتهج الأغصان لروعة المشهد فتصفق بحرارةٍ لتكمل معزوفة الطبيعة ، ويكتمل المشهد ، ويحل الليل ، وتشتد قساوة الإعصار وما تلبث بأن تسكن الرياح وتتوقف الأمطار ، ليأتي دور زينة السماء للأرض ببلوراتٍ من الثلج لترتدي الأرض ثوب زفافٍها الأبيض ، ويطلع النهار ، وقد كشف عن سيدة الحسن والجمال بثوبها الأبيض الناصع ، وتمضي أيام الشتاء ، وتبدأ الأرض في الميلاد بعد لحظات الحب الغزيرة التي وهبتها لها السماء ، فتنبت حباُ وزرعا ووروداً ، وتعلن الأرض من بعدها ميلاد الربيع الساحر ، وتمضي الأيام ليأتي الشتاء من جديد نحلق جميعاً لاستقباله بكل فرحٍ ونردد يا أهلاً بالشتاء ، يا مرحباً بعطاء السماء ، يكاد الظمأ يفتك بعروسك وبنا ، فمدنا بعطاءك و غزير كرمك ولا تبخل علينا ، فنحن نحبك يا فصل العطاء ويا باعث الحياة .