اذاعة مدرسية عن الحج والحجاج , مقدمة وخاتمة عن موسم الحج
أيها الأخوة المؤمنون ؛ كما تعرفون جميعاً الإسلام عقيدة، وعبادة، وتعامل، وآداب، فالعبادات ربع الإسلام، وقد أنهينا وخرجنا قبل أيام من عبادة الصوم، ودخلنا في عبادة الحج، والشيء الذي يلفت النظر أن العبادة في الأصل اتصال بالله عز وجل، وهناك مناسبة للاتصال بالله عز وجل يومياً، وهي الصلوات الخمس، وهناك عبادات تؤدَّى كل أسبوع، وهي صلاة الجمعة، وهناك عبادة تؤدَّى في كل عام وهي عبادة الصوم، وهناك عبادة تؤدى في العمر مرةً واحدة وهي عبادة الحج، فمن عبادة يومية، إلى أسبوعية، إلى سنوية، إلى مرةٍ في العمر.
أيها الأخوة الأكارم ؛ بادئ ذي بدء الصلاة من أجل الصلاة، والصيام من أجل الصلاة، والحج من أجل الصلاة، والزكاة من أجل الصلاة، والدين كله اتصال بالله عز وجل، لأنك إذا اتصلت به سعدت بقربه، ولكن لكل عبادة طعم، وبعضهم قال: إن الصلاة فيها معنى الصيام، ومعنى الحج، ومعنى الزكاة، لأنك حينما تقف في الصلاة لا يصوم فمك فقط، بل تصوم جوارحك عن أية حركة غريبة عن الصلاة، وحينما تتجه في الصلاة إلى بيت الله الحرام فهذا من معاني الحج في الصلاة، وحينما تنقطع عن العمل فهذا معنى الزكاة، لأن الوقت أصل له، وحينما تتجه إلى الله عز وجل فهذا جوهر الصلاة، والصيام من أجل الصلاة، ومن أجل أن تشعر أن الله سبحانه وتعالى راضٍ عنك، لقد تركت طعامك وشرابك من أجله، ولكن الحج أيها الأخوة عبادة مالية، فيها دفع للمال، وعبادة بدنية فيها جهد، وعبادة شعائرية فيها مناسك، وفيها طواف، وفيها سعي، ولكن قبل كل شيء إذا أُدِّيتْ هذه العبادات وأنت في بلدك، وأنت على رأس عملك، والصيام يؤَّدى وأنت في بلدك، وبين أهلك وأولادك، ومع زوجتك، ولكن الحج عبادة من نوع خاص، تحتاج إلى تفرغ تام، في الحج تدع عملك، وبيتك، وأهلك، وشأنك، ومكانتك، وأعمالك، وأشغالك، وتذهب إلى الله.. إني ذاهب إلى ربي. أنت في الحج ذاهب إلى الله عز وجل، وكل الدنيا تركتها وراء ظهرك، وما منا واحد إلا وله في بلده شأن، وعمل، وبيت، ووسائل راحته، وفي الحج يدع كل هذا في سبيل الله.
نقف قليلاً عند التعريفات الدقيقة ؛ وعند الحِكَم البليغة في الحج، وعندها ننطلق إلى بعض التفصيلات.
الحج في اللغة هو: القصد، قال بعض العلماء: كثرة القصد إلى من تعظِّمه، فإذا ذهبت إلى محلك التجاري فلست حاجاً، فيجب أن تذهب إلى شيء تعظمه.
وفي الشرع: قصد الكعبة لأداء أفعال مخصوصة، في زمن مخصوص، وبفعل مخصوص.
إذاً يجب أن نضع في أذهاننا أن الحج رحلة إلى الله، وقد جُعلت في العمر مرة لأنها الرحلة قبل الأخيرة، الرحلة الأخيرة إلى الدار الآخرة، فهذه رحلة إلى الله قبل أن تغادر الدنيا مغادرة لا عودة فيها.
إذاً هو أداء أفعال مخصوصة، في أماكن مخصوصة، في زمن مخصوص.
فالحج في أصح الأقوال فُرض في العام التاسع للهجرة، حينما أنزل الله عز وجل في القرآن الكريم:
﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) ﴾
( سورة آل عمران)
فما علاقة الكفر هنا في هذه الآية ؟ قال بعضهم: من أنكر فرضيته فقد كفر، ومن أهمل أداء هذا الواجب فقد فسق. ومن كفر فإن الله غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ..
الحج كما تعلمون هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فرضه الله على المستطيع والاستطاعة ثلاثة أنواع ؛ بدنية، ومالية، وأمنية، واستطاعة رابعة خاصة بالمرأة أن يكون لها مَحرَماً، فمن لم تجد محرماً فلا حج عليها، لأنها ليست مستطيعة.
وعند الرجال ثلاثة أنواع من الاستطاعات، فلو أن الطريق غير آمن فلست مستطيعاً، ولو أنك مُنِعتَ من أن تحج فلست مستطيعاً، ولو أنك لا تملك المال الكافي فلست مستطيعاً.
ولا يجوز أن تملك أجرة الوصول إلى مكة، وأن تتكفف الناس هناك، فليس الحج واجباً على الفقراء، إنه قد فُرض على الأغنياء المستطيعين، فأنْ تنام في الطرقات، وأن تشوه سمعة المسلمين، وأن تكون في مظهر لا يليق بالمسلم، فأنت لست مستطيعاً إلا أن تملك أجرة المبيت في بيت يؤويك.
إذاً الاستطاعة ثلاثة أنواع ؛ بدنية، ومالية، وأمنية، بأن يكون الطريق إلى الحج سالكاً.
فوائد الحج:
على كلٍّ: فالحج له فوائد كثيرة، وهذه قاعدة، لأنّ أمر الله عز وجل لا يمكن أن يُحدَّ بفائدة واحدة، وأمر الله عز وجل لا نهاية لحكمه، ولا نهاية لثمرته اليانعة، فإذا تحدثنا عن الحج فعن بعض فوائده الشخصية.
والحج يحقق للمؤمن نقلة نوعية، فلو ذهب إلى الحج رجل له مخالفات قبل أن يحج، فأغلب الظن أنه بهذا الحج يتوب من هذه المخالفات، ويقبل الله توبته، فينقل هذا الإنسان من المعصية إلى التوبة.
فلو أن الحاج مسلم صحّ إسلامه، ولكن عندما يدخل الإيمان في قلبه، فالحج لهذا الإنسان ينقله من مرتبة الإسلام إلى مرتبة الإيمان، ولو أن الحاج مؤمن، فلعله ينتقل بالحج إلى مرتبة التقوى والإحسان، ولو أن الحاج متّقٍ، فلعله ينتقل إلى مرتبة الصديقية، فهناك نقلة نوعية كبيرة ، لأنها أيام طويلة ومديدة يقضيها الحاج في رحاب بيت الله الحرام حول الكعبة، وفي المسعى، وفي منى، وفي عرفات، فتارة يصلي، وتارة يطوف، وتارة يسعى، وتارة يدعو، وتارة يبتهل، وتارة يذكر، وتارة يتلو القرآن، وتارة يتصدق، وتارة يقدم الهدي، فهناك أنواع منوعة، وأفعال كثيرة، وأوقات مديدة، فلذلك الحج يحقق نقلة نوعية للمؤمن.
وبصراحة من ذهب إلى الحج وعاد منه كما ذهب فإنّ الله غني عن عبادة شكلية، وماذا يستفيد الله من ترك بيوتنا وأموالنا وأولادنا، والذهاب إلى مكان بعيد، حيث الحر الشديد والازدحام، وإنفاق الأموال، من دون أن تشعر بهذه الصلة بالله عز وجل ؟ فمن وقف في عرفات ولم يتيقن أن الله قد غفر له فلا حج له، فإلى أين أنت ذاهب ؟ أنت ذاهب إلى الله عز وجل، أفيُعَقل أن الله عز وجل لا يقبلك، وقد دعاك ؟ لا، سيتجلى عليك، سيسعدك، وقد سمح لك أن تأتي إلى بيته العظيم.
الحج لا يكفِّر إلا ما كان بينك وبين الله فقط:
ولكن هناك وقفة لابد أن أقفها ؛ فقد يتوهم بعض الناس أن الإنسان إذا ذهب إلى الحج كأن ذنوبه موضوعة في وعاء، وقد أفرغ هذا الوعاء في الحج وعاد بلا ذنوب.
أيها الأخوة الأكارم ؛ الذنوب المتعلقة بالعباد لا تُغفر، ولو بمليون حجة ؛ فاغتصاب الأموال، وأكل الحقوق، واغتصاب بيت، ومحل، وحقوق أخوته الصغار، وكان الأخ الأكبر فيهم، وقد أكل أموال أخوته من ميراثهم، وذهب إلى الحج فلعل الله يغفر له !! هذا هو الجهل بعينه، فقد أجمع العلماء على أن الحج لا يكفِّر إلا ما كان بينك وبين الله فقط.
هناك صحابي جليل خاض مع النبي معارك ضارية، وبذل هذا الصحابي حياته على كفه في سبيل الله، ومع كل هذا إذا مات هذا الصحابي يسأل النبي عليه الصلاة والسلام أعليه دين ؟
(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ فَإِنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: هُوَ عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِالْوَفَاءِ ؟ قَالَ: بِالْوَفَاءِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ ))
[الترمذي عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ]
حديث آخر:
(( يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ )).
[مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ]
فهل من عمل أعظم من أن تقدم حياتك في سبيل الله ؟ ومع ذلك الدين لا يُغفر للشهيد دَيْنُه.
إذاً فهذا الذي يتوهم أن الإنسان إذا أدى الحج غفر الله جميع ذنوبه، هذا إنسان واهم ، والمقصود بالذنوب في قوله: “رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه”، الذنوب التي بينك وبين الله، أما التي بينك وبين العباد، فكما تعلمون حقوق العباد مبنية على المشاححة، بينما حقوق الله عز وجل مبنية على المسامحة، لذلك قال بعض العارفين:
((ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام))
الحج عمليُة صُلح مع الله و إعلان العبودية له و شكره على نعمتي الغنى و الاستطاعة:
فما معنى حجة الإسلام ؟ هي حجة الفرض، فترك دانق من حرام، والدانق سدس الدرهم، والدرهم افترضه ليرة سورية، فسدسه عشرون قرشاً، فترك هذا المبلغ اليسير من حرام أفضل من ثمانين حجة تؤديها.
والشيء الثاني هو أن الحج يطهِّر النفس مما علق بها من أدران الدنيا، ويصفيها، ويقربها من ربها، ويجعلها مستنيرة، وأن الوقوف بعرفة من معانيه أن تعرف الله عز وجل، لأن الحج من معانيه أن تقيم الحجة بنفسك، فأنت في مناسبة تقترب بها من الله عز وجل، فإذا اقتربت منه ألقى في قلبك نوراً، والله عز وجل مسعد إذا اقتربت منه، فاملأ قلبك سعادة، و هو الغني، فإذا اقتربت منه ملأ قلبك غنى، والإحساس بالصفاء، والغنى، والطمأنينة، هذه كلها مشاعر الحجاج.
فبشكل أو بآخر الحج عمليُة صلح مع الله، ومع الصلح فتح صفحة جديدة، وبالضبط هذا المثل، هناك دفتر حسابات، من، وإلى، وذمم، وديون، وحسابات معقدة، فحينما يحج العبد إلى ربه عز وجل، كل هذه الصفحات تطوى، وتُفتح صفحة جديدة مع الله عز وجل.
فكل إنسان أراد الحج فهو يبحث عن علاقة جديدة مع الله، وعن صفحة جديدة تُفتح في علاقته مع الله عز وجل.
شيء آخر في الحج، وهو أنّ الحج نوع من أنواع الشكر، فالشكر على أية نعمة ؟ على نعمتين ؛ أليس الحج بذل جهد بدني ومالي؟ فإذا ذهبت إلى الحج فقد شكرت الله على نعمة الغنى، ونعمة الاستطاعة، وعلى نعمة القوة التي متعك الله بها.
من معاني الحج إظهار العبودية لله عز وجل، تعال إليّ.. لبيك اللهم لبيك، واخلع عنك الثياب، وارتدِ هذه الثياب غير المخيطة.. لبيك اللهم لبيك، إياك أن تتطيب.. لبيك اللهم لبيك، إياك أن تتكلم كلمة، لا فسوق، ولا جدال.. لبيك اللهم لبيك، فهو عملية خضوع تام لله عز وجل، وهذا نوع من أنواع إعلان العبودية لله عز وجل.
أهداف الحج الفردي و الجماعي:
فكل إنسان له مستوى في معرفة الله عز وجل، وهناك إنسان معرفته بالله تجعله مع الله في أكثر أوقاته، وهناك إنسان معرفته بالله تجعله مع الله من حين إلى آخر، وهناك إنسان معرفته بالله تسعده بمراقبة الله له دائماً، فكل مستوى من هذه المستويات يمكن أن ترقى منه إلى مستوى أعلى في الحج، وهذه بعض الأغراض الشخصية في الحج، وأما الجماعية فالله عز وجل قال:
﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ (28) ﴾
( سورة الحج)
هنالك يلتقي المسلمون مِن شتى أقطارهم، فيتعارفون، وقد يلتقون بعلمائهم، وزعماؤهم، وقد يتباحثون، فهو مؤتمر سنوي لجميع المسلمين في الحج، وقد تُنشر الدعوة إلى الله في الحج، وهذا له عمل علمي أطلع عليه زملاءه في الحج، وهذا له فكر نيِّر، وهذا له دعوة، فهذا التبادل بين الحجاج، تبادل الخبرات، والمعلومات، واللقاءات، والتعارف، هذا كله من أهداف الحج الجماعي.
الحجاج جميعاً سواسية أمام مناسك الحج:
وشيء آخر يوحي أن الحج فيه مساواة ثانية، أولاً: الإنسان في الحج يخلع الدنيا كلها، وأحد مظاهر الدنيا اللباس، فيُقَيَّم مستوى الإنسان المالي من مستوى ثيابه، واللباس مستويات، فيمكنك أنْ ترتدي بذلة ثمنها يقدر بثمانمئة ليرة، أو بثلاثة آلاف، أو بخمسين ألفاً.
فحينما أمرنا أن ننزع ثيابنا كلها، معنى ذلك أن هناك مساواة، وكأن الحج يذكِّرنا بيوم الحشر، قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ (94) ﴾.
( سورة الأنعام)
والحج كذلك.. النواحي الاجتماعية أبلغ درجات السواسية، والآن في المسجد يوجد مساواة، فترى الإنسان الغني والفقير، والخطير وغير الخطير، والقوي والضعيف، يقفون في صف واحد، ليس هناك أماكن خاصة لفئات معينة، وليس في المسجد مكان درجة أولى ودرجة ثانية، إنّ بيت الله عز وجل للجميع، ولكن يمكن أن ترتدي ثياباً في المسجد أغلى ثمناً، وأكثر أناقة، لكن في الحج جميع الحجاج سواسية أمام مناسك الحج.
الحج مرة واحدة ومن كان صحيح البدن ميسور الدخل عليه أن يحج كل خمسة أعوام:
هناك شيء آخر في موضوع الحج، أولاً: الحج في العمر مرة واحدة، والدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ ))
[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ]
إذاً الحج مرةً واحدة، ولكن ورد في بعض الأحاديث القدسية التي رواها البيهقي وابن حبان أن الله عز وجل يقول:
(( إن عبداً أصححت له جسمه ـ جسمه قوي ـ، ووسعت عليه في المعيشة ـ دخله كبيرـ تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم ))
[ الجامع الصغير بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري]
معنى ذلك أنّ الحج يتجدّد، والذي حج مرة أو مرتين، كل حجة تشعرك أن هذه الحجة في مستوى أكبر من المستوى السابق.
والحج مراتب كثيرة، فالذي حج مرةً للفرض، يمكن أن يحج كل خمسة أعوام إذا كان صحيح البدن، ميسور الدخل.
وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ ))
[الترمذي عن عبد الله بن مسعود]
لكن الحج مرة ثانية قد يكون واجباً، فلو أنّ شخصاً قال: إنْ رزقني الله ولداً لأحجَّنَّ بيت الله الحرام، وقد حجَّ سابقاً، فقد صار الآن نذراً، والفرض مرةً واحدة، وصار هذا الحج في حقك واجباً، ويحرم الحج بمال حرام ؛ لأن الله طيب ولا يقبل إلا طيباً.
يُكره الحج بلا إذن ممن يجب استئذانه:
ويُكره الحج بلا إذن ممن يجب استئذانه، كأحد أبويه المحتاج إليه، رجل له أب محتاج إليه، أو له أم محتاجة إليه، لا يُقبل حجه إلا أن يستأذن أمه أو أباه، أو كلاهما، وهذا من باب الكراهة، وعند بعض المذاهب من باب الكراهة التحريمية، فيكره تحريماً أن تحج بيت الله الحرام دون أن تستأذن ممن له حق عليك.
يُكره كراهة تحريمية أن تحج دون أن تستأذن غريمك، عليك دين لشخص، وقد رآك تذهب إلى الحج، وعليك خمسين ألف ليرة ديناً، فإنّ صاحب الدَّين يتألم ؛ فقبل أن تحج البيت أدِّ ما عليك، أو أنْ تستأذنه فيأذن لك.
والعمرة كما قال بعض العلماء: يمكن أن تتكرر في العام الواحد مرات عديدة، والعمرة عند بعضهم واجبة، كوجوب الحج، لقوله تعالى:
﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ (196) ﴾
( سورة البقرة)
***
موضوع القِبلة:
استقبال القبلة أحد شروط الصلاة و يمكن للإنسان أن يميل عنها بحالات خاصة جداً:
هناك موضوع قصير، أريد أن أبحثه معكم، لأنه بلغني قبل أيام أن أحد الأخوة الكرام قال: القبلة مائلة، وفي هذا تشويش على المصلين، فأردت أن أعرض عليكم موضوع القبلة بشكل دقيق ؛ لأن الفقه قوام الدين.
أولاً: حينما قال الله عز وجل:
﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (150) ﴾
( سورة البقرة)
شيء بديهي ومعروف عندكم ؛ أحد شروط الصلاة استقبال القبلة، ولكن القبلة نقطة أم خط ؟ فهل يجب أن نتجه إلى عين الكعبة أم إلى خطٍ يمر بالكعبة ؟ وهل القبلة جهة أم نقطة ؟ استمعوا إلى رأي العلماء:
أولاً: في حال الخوف الشديد يمكن ألاّ تتجه إلى القبلة ؛ لأن قبلة الخائف جهة أمنه، في حال المرض الشديد يمكن ألاّ تتجه إلى القبلة ؛ لأن قبلة المريض جهة راحته، وفي حال صلاة النافلة على الدابة يمكن ألاّ تتجه إلى القبلة ؛ لأن قبلة المسافر جهة دابته.
فقبلة المريض جهة راحته، وقبلة الخائف جهة أمنه، وقبلة المسافر جهة دابته ، يمكن أن تصلي صلاة نافلة على الدابة، أو السيارة – هي دابة اليوم – أو الطائرة متجهة نحو الشمال، ويمكن أن تخاف من عدو أو من سبع فتتجه نحو الشرق وأنت تصلي، ويمكن أن تتجه نحو الغرب إذا كنت مريضاً وترتاح بهذه الطريقة.. على كل هذه أعذار أما إذا انتفت الأعذار فالقبلة يجب أن تتجه إلى بيت الله الحرام، لهذه الآية التي هي أصل في القبلة.
أيُّ خط اتجه نحو الجنوب فهو نحو القبلة في المذاهب الثلاثة:
لكن هناك حالات خاصة، لمن هم في مكة المكرمة، إذا دخلت إلى بيت الله الحرام، ورأيت الكعبة رأي العين، فالقبلة يجب أن تكون عين الكعبة، وأن تتجه إلى الكعبة بعينها، والعلماء يقولون: وسكان مكة المكرمة يجب أن يتجهوا إلى عين الكعبة، لا إلى جهتها في صلاتهم. فمن دخل إلى بيت الله الحرام أو من كان مقيماً في مكة المكرمة، فالقبلة ليست جهة الكعبة، بل عين الكعبة، وما سوى ذلك فالأحناف، والحنابلة، والمالكية، يعتبرون القبلة هي جهة وليست نقطة، و يعتمدون في هذا على قول النبي عليه الصلاة والسلام:
((مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ ))
[الترمذي عن أبي هريرة]
فالقبلة هي الجهة، فإذا اتجه المسجد نحو الجنوب فهو وفق القبلة الصحيحة، أما أن تطالب أن يتجه المصلي إلى درجات من الزاوية ـ سبع وثلاثين درجة وربع ـ فقد جعلت القبلة نقطة، وهذا خلاف الأحناف، والمالكية، والحنابلة، ولكن هناك نقطة في هذا الموضوع الإنسان دائماً حينما ينسى جوهر الصلاة، ويتعلق بخلافيات، وبأشياء صغيرة جداً، ويلقي على الناس كلاماً من دون تحقق، ومن دون دقة، فقد يوقع التشويش بينهم، وهذا ليس من الحكمة في شيء، فلذلك المذاهب الثلاثة تجعل القبلة جهة الشرق والغرب معاً، فهي خط يبدأ من المشرق وينتهي من المغرب ويمر بالكعبة، فإذاً أيُّ خط اتجه نحو الجنوب فهو نحو القبلة.
ولو أردنا هذه الدقة التي يقولها بعض الناس لم تصحَّ صلاة الصف المستقيم، أليس كذلك ؟ ولو كان الصف طويلاً يجب أن يتجه من على اليمين نحو الوسط، ومن على اليسار نحو الوسط، فصار الصف منحنياً، وهذا ليس وارداً في الصلاة إطلاقاً، فالصف يجب أن يكون مستوياً، ألا تسمعون الإمام يقول:
((سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة))
إذاً هذا التشويش درجتان ؛ درجة ونصف، درجة وربع، ونقول: نحن في المذاهب الثلاثة الاتجاه إلى جهة الجنوب هي القبلة الصحيحة.
لكن مذهب الشافعية يرى أن الاتجاه نحو عين الكعبة، وهذا المذهب يوجب الدرجات، وحساب الجنوب الحقيقي والجغرافي، وهذا كله لسنا بحاجة إليه.
الاجتهاد في تحرِّي القبلة في المدر:
هناك شيء آخر ؛ يجب الاجتهاد في تحرِّي القبلة، أفي الحضر أم في المدر ؟ هل في الحضر اجتهاد ؟ لا، المدينة كلها مساجد، فادخل إلى أي مسجد ترى المحراب نحو القبلة، فلا يوجد اجتهاد في الحضر، أما إذا كنت مسافراً، وكنت في أرض فلاة، فعندئذ يجب عليك أن تجتهد في تحري القبلة، ويمكن أن تحمل بوصلة أو أجهزة تعطيك القبلة بحسب الشمال بالدرجة، أو بحسب الشمس، أو بحسب القمر، فيمكن أن تهتدي بالشرق والغرب، أو تهتدي بنجم القطب، أو باتجاه الرياح، وأضعف الأدلة اتجاه الرياح، وأقواها نجم القطب.
من لم يتحرَّ القبلة فصلاته غير مقبولة ولو أصاب أما إذا علم أنه قد أصاب فصلاته مقبولة:
انظروا إلى الدِّين ما أعظمه، فلو اجتهدت في تحري القبلة، وصليت الصلوات كلها، وبعد أن انتهيت من الصلاة تبين لك أن اجتهادك غير صحيح فالصلاة مقبولة، وليس عليك أن تعيدها.. هذا الدين ؛ لأن أصحاب رسول الله، صلوا مرةً واجتهد كل واحد منهم في القبلة، واختلفوا في اجتهادهم، فلما عادوا إلى النبي قصوا عليه ما حدث فنزل الوحي بهذا:
﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) ﴾
( سورة البقرة)
فيمكن أن تصلي نحو الشمال على أنه الجنوب، والصلاة مقبولة وليس عليك أن تعيدها، إذاً هل يُعقل أن نشوش على الناس إذا كان الفرق درجة، أو نصف درجة، ذكرت لكم هذه الأحكام كي لا نسمح لإنسان أن يشوش صلاتنا، أو نغير اتجاهنا.
وهناك تعنت، وإلقاء كلام غير مسؤول.. والذي يقول هذا الكلام ليس فقيهاً في الأصل، ولو عرف المذاهب الأربعة وأدلتها، فالنبي الكريم يقول:
(( مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ ))
[ الترمذي عن أبي هريرة]
إذاً القبلة جهة وليست نقطة، وكل مسجد متجه نحو الجنوب فقبلته صحيحة، أما إذا أردت أن تتبع مذهباً واحداً، وهو مذهب الشافعي تحتاج إلى مشقة بالغة في تحري جهة المصلي وهي نقطة عين الكعبة.
فأنت مسلم، واللهُ أمرك أن تجتهد، تجتهد بالساعة، أو بالشمس، أو بالقمر، أو تسأل إنساناً، ولكن: لا سألت ولا اجتهدت فهذا اسمه إهمال، ولذلك من لم يتحرَّ القبلة فصلاته غير مقبولة ولو أصاب، أما إذا علم أنه قد أصاب، فقال العلماء: إن صلاته مقبولة.
ومن اجتهد في الحضر أيضاً فصلاته غير مقبولة، لأنّ الحضر لا اجتهاد فيه والحضر كله مساجد، وكلهم يقيمون، ويصلون.
القرآن يبعث في القلب الطمأنينة و الراحة:
رجل قال كلمة أحببتها، قال: القرآن يبعث في القلب الطمأنينة، ألا بذكر الله تطمئن القلوب، والسنة تنوِّر الوجه، والدليل:
((نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ ))
[الترمذي عن عبد الله بن مسعود]
فإذا سمع الإنسان من رسول الله حديثاً، أو قرأه، وبلغه للناس فهذا ينير الوجه.
والفقه يوسع الأفق، فلما يضيِّق الإنسان عليك الأمر تضييقاً شديداً فهذا ليس فقيهاً لأنّ الفقه فيه اتساع، وفيه يسر، وفيه اختلاف رحمة ، لا اختلاف تناقض، فالإنسان إذا عرف الحكم الفقهي، وعرف أدلة الفقهاء، يشعر أنه في بحبوحة، وأن الإسلام يسر، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا ))
[البخاري عن أنس]
((سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ ))
[البخاري عَنْ عَائِشَةَ]
والحمد لله رب العالمين