همس القوافي

خواطر شوق قصيره

يهبُّ الحنينُ من كلِّ الجهاتْ، تتعطلُّ بوصلةُ القلبِ، حينَ تهبطُ وجوهُ الأحباءِ، كطيوفٍ شفافةٍ على عيني، تتحولُ النافذةُ إلى منفى بكلِّ أبعاده الرمادية، ويتجسدُ الغيابُ تمثالاً من الشمعِ الأسود، وكلما انزلقتْ دمعة حارة يذوبُ قليلا منه على روحي، فتزدادُ قتامةً وعتمة، يملؤني البعدُ تماماً كما تملأُ مياهُ البحر قارورة ملاقاة على الأرضِ، واشعر كمْ أنهُ ثقيل الوزن، وكم أنَّ القارورة ضيقة، ولا أجدُّ قشَّةً من ذكرى لأتشبثً بها في غَرَقِي اللانهائي، وفي غيبوبتي الضبابية، ولا تمتدُّ يدٌ ما لتنتشلني من طينِ الإشتياقِ واللّوعة، وبلا مرساةِ أمل يضيقُ البحر ليُغرقني.

(2)

الشوقْ، أولُ الطيورِ المهاجرة إلى سهولِ قلبي النائية، فكلما جنَّ أشعرُ أنني تركتُ جسدي على الأرض وطفوتُ بهدوءٍ إلى وطني على أجنحته البيضاء، الشوقُ أولُ السنابلِ الشامخة بينِ صخورِ ذاكرتي، تصفرُ سبعةَ أعوامٍ لتخضرَّ لحظة واحدة، وعليّ أن أصبرَ على صيامِ روحي كلَّ أعوام الغربة، لاقتاتَ من هذهِ اللحظة، لحظة يشمُّ بها المشتاقُ ترابَ أرضه في تلكَ اللحظةِ التي يغتسلُ فيها وجههُ بشمسِ الوطن، وتتنفسُ فيها أحلامه، أكسجينَ الذاكرة الغضة التي تنامُ في كلِّ وردةٍ، ووراءِ كل زقاقٍ، وتحتَ كلِّ نافذةٍ في الوطن، في تلك اللحظة تخضرُّ السنبلة لثانيةٍ وإلى الأبد ويضمحلُّ الشوق كسبعَ سنابلَ عجاف، أكلتهم سنبلة خضراءُ واحدة.

(3)

تراودني كلُّ صفحةٍ بيضاء ظلَّ فيها سطرٌ لم أكتب به لكْ، وتسألني كلّ دواةٍ عن الحبر الذي ظلَّ ساكناً ولم تحركه ريشتي لتبللَّ به الصفحةَ البيضاء، وبهذا السكون تجتاحني أساطيلُ الوجع والشوق، وأجدُ نفسي أواجهها أعزلا من كل سلاحٍ إلاَّ من القلمِ والورقة. والكتابة ! كلُّ تلكَ الرسائلِ التي كتبتها أرشفتها ذاكرتي بالدموع والملح، ونقشتها على جدران الصمتْ، وكلما حاولت إستدعائها نبشت جروحي فأشعلها الملحُ أكثر فأكثر، وعضتْ مُهجتي وتركتني، وقد كتبتُ سطراً آخراً وحركتُ دواةً أخرى وتركتُ أرشيفاً آخراً من الدموعْ.

(4)

هذا الحنينُ الذي يرفرفُ في فؤادي كطيرٍ في النزعِ الأخير، يغلِّفني بالأحزان، واللوعة، هل أصبحَ  الغيابُ خطيئة المحبين، وهل أصبحَ الشوقُ قاضي القضاة الذي يجلدنا بأحكامه، ولا يخرجنا  من هذا العزل الإنفرادي ؟ من هذهِ السجنْ الأبدي الذي يطوِّقُ روحي، ويدفنها في غياهب الألم والدمع، ويتركُ قصائدي اليتميةَ ملقاةً على قارعةِ المنفى، وهل يحقُّ لهذا القاضي أن يحكمُ علينا بعامٍ آخر من الإختناق شوقاً وحباً.. في ممراتِ هذهِ المحكمةِ الظالمة ووراءِ هذهِ القضبانِ الباردة، أسمعُ صوتَ المطرقة.. حكمت المحكمة حضورياً على المتهم بالبراءة..عُدْ إلى وطنك يا غريب.

زر الذهاب إلى الأعلى