ود جاد الله .. كسار قلم مكميك
طربت ، أي والله طربت وأنا أقرأ المرافعتين القويتين لكل من بروف عبدالله علي إبراهيم و د.محمود مادبو في الرد على السفير د.حسن عابدين الذي نفى واقعة قيام البطل عبدالله ود جادالله بكسر قلم الإداري الاستعماري البريطاني ونائب مفتش بارا بشمال كردفان هارولد ماكمايكل بالرغم من أن ذلك الحادث البطولي سارت به الركبان وتغنى به السودانيون عبر الأجيال منذ حدوثه وكان من أكثر الأغاني الحماسية التي وثقت لتلك الحادثة البطولية أغنية : (عليك بجر النم يا دقر الحرايق
أصبحت كارف السم)
وفيها البيت الأشهر :
يا عيد الضحية الفتحولو البيت
رايو مكملو كسار قلم مكميك
يعلم الله أننا سمعنا بواقعة قيام عبدالله ود جاد الله بكسر قلم الخواجة هارولد ماكمايكل ونحن أطفال وربما لم نكن نردد اسمه لكننا كنا مزهوين ببطولته وكنا نكتفي باللقب دون الأسم.
الواقعة التي نفاها حسن عابدين وأثبتتها الوثائق التي عرضها المؤرخان الكبيران عبدالله علي إبراهيم ومحمود مادبو من خلال الاستدلال بوثائق بريطانية وألمانية مفحمة، بالإضافة إلى الروايات الشعبية المتداولة لدرجة التواتر والتي أغفلها حسن عابدين بصورة لا تليق بذلك المؤرخ الكبير تقول إن ود جاد الله زعيم الكواهلة في إطار نزاع على المرعى بين قبيلتي الكواهلة والكبابيش في شمال كردفان قام بكسر قلم الإداري الاستعماري ماكمايكل ورماه أرضاً لأنه وقع ترتيباً للمراعي في عام 1907 يعتقد ود جاد الله أنه ألحق ظلماً بالكواهلة.
ما أثبته مادبو مما أغفله عابدين أن ماكمايكل أقر بالواقعة ضمنا في أوراقه الخاصة المودعة بجامعة درم ببريطانيا، لكن عابدين لم يتعرض لتلك الوثائق وإنما ركز على إهمال ماكمايكل لذكر واقعة قيام ود جاد الله بكسر قلمه في كتابه (قبائل شمال ووسط السودان) واعتبر ذلك حجة رجح بها عدم حدوث الواقعة!
عبدالله علي ابراهيم بالرغم من إشارته لإغفال عابدين ذكر اعتراف ماكمايكل لواقعة كسر القلم في أوراقه الخاصة أضاف حجة قوية أخرى للباحث الألماني كورت بك الذي أكد الواقعة حيث ذكر أن ود جاد الله صار (أسطورة سودانية مهيب المظهر وذاع أنه لا يرهب ماكمايكل وكان لا يملص نعلاته ولا سيفه حين يدخل عليه في خيمته وكان لا يطأطئ له بمخاطبته {يا جنابو} نازعاً عنه بذلك علوه الكبير طالباً للندية وتحير ماكمايكل في ذلك فسأله عن سوء خطابه ذاك ، فرد ود جاد الله : ألم تسمك أمك ماكميك .. كيف لي مخاطبتك بغير ما سمتك به أمك؟) وقال الباحث الألماني إن الكواهلة يتفاءلون بود جاد الله فيدعو الواحد للآخر (الله يجعل أولادك مثل عبالله ود جاد الله الكسر قلم ماكميك ورماه تحت قدميه).
عاتب بروف عبدالله علي إبراهيم د.حسن عابدين لإغفاله رواية الكواهلة من أفواه رواتهم ثم لتجاهله مكتوبات الدولة الاستعمارية المحفوظة بدار الوثائق القومية وخاصة تلك المعروفة بسجل السكرتير الإداري الذي يعتلي قمة الهرم الإداري لإدارة القبائل وتضم كل المكاتبات المتبادلة بين المراكز والمديريات.
أسعدني المؤرخان وهما يردان على د.حسن عابدين الذي أدهشني بحق أن يغفل عن تلك الوثائق وهو ما يحتاج إلى رد مقنع منه سيما وأن الأمر يطعن في مصداقية الباحث الكبير ويدعو إلى التساؤل : لماذا يبخس دور بطولي لرجل عظيم انتصر لكرامته وكرامة بلاده من استعماري متغطرس؟! وليت د.حسن عابدين يعترف بالخطأ باعتباره نبوة قلم وكبوة جواد فالرجوع إلى الحق فضيلة.
رغم تلك الهفوة فأني أود أن أؤكد أن
د. حسن عابدين يحظى باحترام كبير سيما وأنه من المؤرخين الناشطين في تصحيح كثير من الأخطاء التاريخية.
على المستوى الشخصي تستهويني البطولات التي نحتاج إليها لغرس القيم والتربية الوطنية في أجيالنا الجديدة فقد ظلت واقعة إهانة أحد المفتشين الإنجليز في زمن الاستعمار في حق والدي تقض مضجعي وقد أثرت كثيراً في تعاملي مع بريطانيا خلال حياتي العملية وفي نظرتي لتلك الدولة التي ظللت أناصبها العداء ليس لما فعلته في حق والدي ووطني فحسب إنما في حق الأمة الإسلامية جمعاء، وما وعد بلفور وسايكس بيكو عنا ببعيد .