الغالي متروك
قرأت مقالاً إسفيريا للرائعة منى سلمان.. حكت فيه عن تجربتها مع الطبخ (الأورديحي).. تقصد أن يكون الطبيخ خالياً من اللحم.. أستاذة منى درست الجامعة في الاسكندرية.. قالت في مقالها.. إنها انتبهت أنهم كانوا يعيشون أشهراً لا يتذوقون اللحم.. ذلك أن المائدة المصرية لا تعتمد على اللحم كثيراً.. عكسنا نحن في السودان.. أذكر أنني كتبت تعليقاً على مقالها بأننا (نحن بتوع الأورديحي)..
فأجابتني.. قائلة (أكتبي لنا عن ثقافتكم الغذائية.. فالنوبة أصحاب تجربة ذاخرة في هذا الشأن)..أنا أيضاً انتبهت الى هذا الأمر مؤخراً.. لذلك قررت أن أشارك في مقاطعة اللحم.. أولاً لأن الغلاء بلغ حداً غير معقول.. ربما وجد الجزارون له تفسيراً.. بارتفاع تكلفة الترحيل.. وغلاء سعر الحيوان نفسه.. لكن في المقابل.. أنا كمستهلك.. لم تتم زيادة مواردي المالية.. والماهية.. هي.. هي.. والحال يا هو نفس الحال.. وفي جواي صدى الذكرى…أما ثانياً فهو متن المقال.
ترافقت قبل سنوات.. مع إحدى زميلاتي (البيطورات) في رحلة الى شمال السودان.. كنا نجمع عينات من الحيوانات استعداداً لتجارب معملية تطلبتها دراسة الدكتوراة.. حطت رحالنا بمدينة عبري.. وبدأنا مباشرة العمل في سحب الدماء ثم تفريغها في الأنابيب.. حتى سمعنا النداء للأكل.. لا أنسى تلك الوجبة ما حييت..
كانت الصينية تحتوي على صحن طبيخ فول أخضر.. وأرز وسلطة أسود وبطاطس محمر.. الأكل كان لذيذاً وطاعماً بشكل خرافي.. علقت زميلتي أنها لم تذق أكل بهذه التسبيكة من قبل.. قلت لها (لاحظتي شيء غريب؟) نفت ذلك.. قلت لها (ما في لحمة في الأكل دا.. الفول الأخضر معمول بصلصة طماطم) فغرت فاهها دهشة.. استطردت قائلة لها (نحن هنا عادة ما بنطبخ باللحم.. لأنو نحن ما ناس سعية.
لو لقيتي حيوانات.. بتكون عشان اللبن.. والدجاج عشان البيض.. إلا يمكن الحمام يتربى عشان الأكل).. الطبخ بدو ن اللحم بالإضافة الى أنه قليل التكلفة… مغذي وصحي.. ولذلك تجد أن أهلنا قليلي الإصابة بأمراض القاوت وتعب القلب وتصلب الشرايين.. ترى لماذا لم نستطع أن ننشر ثقافة الاكل (الأورديحي) هذه..؟ ولا يعرف الناس عنا إلا تلك النكات إياها.. وأغنية (أسمر اللونا)؟
في كوريا.. لاحظت أنهم لا يتعاملون مع السكر.. لا أبيض ولا أسمر.. ولا حتى بنفسجي (دي من عندي).. أفخر المطاعم عندهم لا يقدمون لك (تحلية).. إلا إن كان المطعم يحمل جنسية دولة أخرى..
سألت مرافقنا.. ليه ما عندكم سكر؟؟ قال لي ببساطة.. أنهم لا يزرعون قصب السكر.. لذلك لا يدخل السكر في ثقافتهم الغذائية.. بس كدا.. يعني الجماعة ديل ما سمعوا بالاستيراد والتصدير دا ولا شنو؟ برمجوا نفسهم على ما تنتجه بلادهم وما يناسب بيئتهم وعاشوا في تبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات.. أذكياء ما شاء الله سادوا العالم أجمع.. وكمان أقصوا ألمانيا ست الإسم من كاس العالم..
(اللي ما عندوش.. ما يلزموش) مثل مصري.. ينطبق علينا في هذه الحالة.. لا نستطيع شراء اللحوم.. نتوقف عن شرائها.. وسنكتشف أن هناك الكثير من الأكلات اللذيذة الطعم.. المغذية.. والتي يمكن أن تسد رمقنا…. يسري الأمر كذلك على السكر.. وجميع المتجات الغذائية التي لا نملك مقابلاً لها.. سنترك كل منتج غالي في مكانه.. حتى ينصلح الحال.. أما قروشنا زادت.. ولا الحاجات رخصت.. ولا كمان غيرنا ثقافتنا الغذائية.. واكتسبنا صحة ورشاقة.. وغنينا مع مسجل آدم (ما بعيد الدنيا تبسم لينا من أول جديد).