نزهة على جانب الرحيل
نعم نكتب لأننا نريد من الجرح أن يظل حيَا ومفتوحا ..
نكتب لأن الكائن الذي نحب ترك العتبه وخرج ونحن لم نقل له بعد ما كنّا نشتهي قوله
, نكتب بكل بساطه لأننا لا نعرف كيف نكره الآخرين ،
ولربما لأننا لا نعرف أن نقولَ شيئا آخر
– واسيني الأعرج
لو كان للإعتراف من امري هذا شيء .. لقلت ان الكتابة – ولأغلب فترات عُمري – كانت الكتف الوحيد الذي يمكنني البكاء عليـه دون يتململ .. او أن يرحل !!
يـاه ..
الرحيل ..
كلمة تأخذ من قلوبنا عمرا كبيرا ..
اعتقد .. بل اجزم احيانا بأن كلمة ( رحيل ) وكل ماهو مُشتق منها حُكمه في اللغة مكروهـ , جائز عند الضرورة ..!
مالذي أرٌيد أن ارويه ..
فكرت كثيرا في هذا السؤال عندمـا طرحت على نفسي فكرة الكتابة ..
اتكون قصـة افراح قصيرة , ام تكون رواية كبيرة الحجم لأتراح متواليـة ..
وضعت فكرة الكتابة جانبـا لأيام ..
ولا أعلم السبب الذي جعل فكرة الكتابة تنتابني بقوة اليوم
إتجهت إلى مكتبة كبيرة الحجم – كأحلامي – بحثت عن الدفتر الأكثر سوادا .. ولا اعلم سبب ذلك ..
لعلي أبحث عن لون حزين يجعلني انوح حرفا , او ربمـا كان ذلك بسبب كرهي للألوان الزاهيـة ..
وهاهو الدفتر أمامي الآن
ويأتي السؤال مرة أخرى ..
مالذي سأكٌتبه .. ؟
أظن بأني سأحتفظ بفكرة الكتابة هذه لي .. ولي لوحدي ..
قد استفيد من الكتف الوهمية التي يقدمها لي الدفتر على أية حال ..
حسنـا
مقيمة انا في الدنيا منذ 29 عامـا ..
شهدت ولادة احلام وانكسارات منذُ دهر او اكثر !
سًأكون هٌنا .. كلمـا إحتجت للحديث
واظن أنني بحاجة لذلك كثيرا !
كثيرا جدا !
البدايــــة : الدهشة الأولى
حين أراك
يتنفس الحٌب الصعداء ..
وحين تغيب
يولي الفرح الأدبار ..!!
*غادة السمُان
مرت أيـام .. و أنا أُمارس فيها الغياب لأول مرة .. تلك اللعبة الخفية التي إخترت لعبهـا تبقي الجرح حيـا في حُين أن كٌل ما أردته من هذه الممـارسة هو تخدير الجرح ..
يأتيني صوت الهاتف من مغارة زمنية بعيدة , أختار ألا أردً في المرة الأولى ..
يصمت الهاتف قليلا ليعاود الصُراخ في ذاكرتي ..
أرفع سماعته وأصمت ..
وتجيبني أنفاسـه ..
– هو : أتلعبين لعبة التخفي ؟
– أنا : لا أحٌب الألعاب كثيرا ..
– هو : إذن فأنتٍ تعتادين الرحيل ؟
– أنا : عن أي رحيل تتحدث ؟ .. لا أحد راحل هٌنا !
– أجابني بصوت يملئه شجن رجولي : عن أي رحيل ؟ أتحدث عن الرحيل بصُحبة الموت يـا وطن !
– تألمت لسماعها .. أنا : أرجو أن تقلل من استخدام هذه الكلمة .
– هو ممازحـا : الموت ؟ !
– أنا : سأدعي أنني لم اسمعها ..
– هو : ألا تظنين بأنك الآن تمارسين شيئا من الإنكار ..
– هٌنا .. لم استطع إمساك غضب طفيف اعتراني , أنا : كف عن ذلك !
– هو : و ماذلك ؟
– أنا : وهذا أيضا ..
– يجيبني وصوته تعلوه ضحكة خفية : و ماهذا ؟
– أنا : كم أمقتك !
– هو : لا تكذبي ياوطن !
– أنا : لم أكذب .. أمقٌت لعبة الكلمات , و لعبة السخرية من القدر .. الا ترى بأني مُتعبة هُنا ؟!
– هو : وكم أحبك وأنتٍ متعبـة .. ياوطني ..
– أنا : أرجوك , أرجوك كُف عن ذلك ..
– هو : متى أراك ؟
– لم أعرف ماذا أقول : لا أعرف ..
– هو : إسبقي الموت إلي .. أريد أن أموت في أحضان الوطن ..
دمعـة باردة أحُس بها على وجنتي , أصمت قليلا .. ثم أغلق السمـاعة .. وفي قلبي ألف دقـة تصرخ بـ : لا ..
لا للقدر الذي يأخُذ منا كٌل مانحُب ..
ولا للأيام التي اختارت ان تتناقص بسُرعـة ..
ولا للغياب الذي غرز مخـالبه في قلب حكايتي
ولا لذلك الرجٌل الذي قرر أن يـأخُذ من الموت هزوة , او سببا للضحك ..
لاشيء مُضحك هُنا .. لا شيء
ترهقُني بقايا صُوت ذلك الرجُل ..
ترهقني حد تذكر اللقاء الأول .. و حد استرجـاع لحظة ولادة الحٌب ..
ذلك الحٌب الذي إختار أن يسميـه وطناً .. واخترت أنا أن اطُلق عليه إسم السماء ..
السماء
مكًان إختار الجميع تنصيبـه قبلة للأمنيات ..
و إخترت أنا أن أنصٍبه قبلة للحُزن وللحُب , و ولتلك الحكايات التي أرويها بإبتسامة الساخر من فقره , و المتناسي حُبا قديمـا تركه بلا وجهه
كُنت له وطنـا , و كان لي سماء ..
كان اللقاء الأول عابرا , عـابرا لحدود المعرفـة الأولى :
أجلس في مقهىً قصًي يقع في حدود دولـة لا أحفظ من شوارعهـا سوا بعض الأسماء
رتابة المكان , وجوه العابرين المشغولـة بألف فكرة , الأرصفـة القديمـة
ذلك ماخترت تأمله بينما إحتسي قهوتي بعد أن اضفت لهـا 8 ملاعق من السُكر ..
يقاطعني ذلك الغريب ..
هو : يبدو أنك تحاولين الموت حلاوة ..
أنظر إليه بلا إهتمام : وهل يبدو لك أني أهتم بالأشياء ” الحلوة ” كثيرا ؟ !
هو : إن لم تكوني كذلك .. لما تغرقين قهوتـك بكٌل ذلك القدر من السُكر ..؟
أنا : القهوة كالحيـاة .. مُرة في مجملـها , والسُكر كإبتسـامة .. نقنع بها أنفسنا بأن الدنيا ستكون أجمل ..
وهما معـا كالدنيا في جميع اوضاعها, مهمـا كان عدد الأفراح والابتسـامات التي تضيفها لها , يظل طعم المرورة غائصا في العُمق ..
هو : لم أُدرك بأني أتحدث إلى فيلسوفـة ..
أنا : لكٌل منا طريقته في الحديث , عندمـا اخترت أنت ان تحادثني بالسُكر , اخترت أنا ان ابعدك بمرورة القهوة .. والفلسفة ربما
هو : أفهٌم من هذا الحديث بأن القصد .. كٌل القصد هو أن ابتعد ..
أنا : ربمـا ..
هو : حسنـا ..
قام من كرسيـه رافعـا كوب قهوة وكُتاب يقرأه , وسحب كرسيا من طاولتي وعلى حين مفاجأة مني .. وجلس , إلى طاولتي !
أنا : اهكذا تبتعد ؟
هو : بالطبع !
أنا : وكيف تسمي ذلك ابتعادا ؟ !
هو : طلبتي إلي ان ابتعد .. فإبتعدت عن المحيط الذي يحتويني .. لأدخل محيطك .. وليتسنى لنا الحديث في محيط واحد ..
أنا : آهـ .. الحديث عن البحار والمحيطات ..
هو : أنت جميلة بالطًبع , لك فلسفة غريبة في القهوة أكيد , ولكن ظريفة .. اممممم لا اعتقد !
أنا : حسنا .. مالذي تريدهـ يا غريب !
هو : ألسنا في المحيط ذاته ؟ لماذا تطلقين علي لقب الغريب !
أنا : أنت غريب ولو كُنا في البحيرة ذاتها ..
هو : الظرافـة .. الظرافـة ..
أنا : أتمارس دومـا هواية الجلوس الى فتيات لا تعرفهم ؟
هو : إنها أول مرة في الحقيقـة , و أظن بأني سًأحترف هذه الهواية ..
أسررت لنفسي في الحديث وانا أرتب اشيائي بنيـة الرحيل : لا أستطيع احتمال هذا الكًم الهائـل من الثقـة , وتلك الرجولة الباذخه التي يحملها ..
قُمت من الكرسي .. حييته بإبتسـامة : أتمنى لك التوفيق في هوايتك .. إختر جيدا مع من تمارسها .. لا تمارسهـا مع فتاة اختارت كرسي في زاوية مقهى .. هذا فقط ما انصحك بـه ..
قال ممازحا : ومن قـال بإني أنتقي ذوات الكراسي ..
توقفت قليلا ونظرت إليه : هل كٌنت اطفو على موجة هٌنا ؟
ضحك , وضحك , وضحك ..
يـاااااهـ .. تلك الضحكًة , كانت سببا في سعادتي لسنوات , وسنوات , وسنوات
تجنبت كٌل مايمت لتلك الضحكة البريئة بحديث وقلت لـه .. : وداعـا !
ومضيت .. إلى ذلك الطريق المليئ بالمارة المتدثرين بثيابهم في صباح شتائي ..
فإذا بـه يمشي إلى جانبي .. قال لـي بذلك الصوت الذي لن أنساه أبدا : هٌنا إلتقينا .. صُدفـة .. في صبـاح شتائي ..
ومضى !
وبقيت أنا عالقة في تلك الجٌمله .. وفي ذلك الصوت , و كٌل ذلك الزخـم القادم من رجـل لا أعرف منه سوا بضع جمُل .. وضحكة !
أغلقت الباب على ذكٌرى دهشتي الأولى :
استيقظت على أنقاض ماكنت أُسميه في السابق غٌرفة .. ومعدة خالية من أيام .. ورغبة معدومـة في ممارسة الحياة ..
وأي حياة أمارسها بلا سمـاء ..
ترددت كثيرا وانا انظر لوجهي في المرءاة .. أصفر اللون شاحب , أأذهب إليه هكذا ..!
أيرى وطنـه وقد أحالته الدٌنيا الى صحراء قاحلة بعد أن كان روضـة من رياض الدنٌيا !؟
أعدت ترتيب غرفتي , اخذت حمـاما دافئا طويلا ..
ارتديت قميصا رماديـا كان قد اشتراه لـي فيما مضى .. ثم مضيت وفي يدي كوب قهوة بدون سُكر ..
قررت التوقف عن ممـارسة عادة السُكر .. فلا شيء .. لا شيء الآن قد يجعل الحياة اجمل ..
نتوقف عن ممارسـة عادة مفرحة صغيرة مع كُل انكسار .. نتوقف نحن بينما نشُاهد الحياة تمضي غير مكترثـة بعاداتنا , او حتى بإنكساراتنا
وصلت إلى الغرفـة : 475
أطيل النظر في الرقـم ..
يأتيني صوتـه من الداخل : لاداعي للطرق ..
أفتح الباب : لم أكُ انوي أن اطرق الباب , سرحًت قليلا ..
أقبل رأسـه .. أجلس بعيدا .. يتأملني بإبتسـامة واهنة
هو : اتعتادين الحياة بدونـي ؟ !
أنا : ومن قال ذلك ؟
هو : قبلتك تحكي ..
أنا : اتريد مني ان انهال عليـك بالقبل والأحضان والدموع ..
هو : ولما لا ..
أنا : لست تلك الفتاة ..
هو : ولكن الموت سيأخذني عما قريب ..
أنا : الا ترى بأنك تستغل الموت لمصالحك كثيرا ..
ضحك ضحكته تلك .. التي توقعني كً مراهقة سمعت كلمة الحٌب الأولى ..
وانا كذلك ! اسمع ضحكة الحٌب الأولى لكل يوم ..
أنا : اتعلم ماتصنعه بي تلك الضحكه ؟ !
هو : أعلم جيدا .. منذ اللقاء الأول ..
أنا : وذلك الطريق الشتوي ..
هو : وذلك الطريق الشتوي .. والمعاطف و اكواب القهوة .. والأحاديث الدافئة .. اشتاقها كٌلها ..
أتألم صمتـا .. و يطيل النظر إلى صمتي .. وأعلم بأنه يراني , عاريـة الروح .. ويتألم للألم الذي يعتصرني .. ولايقدر سوى أن يسخر من قدر يحيُط به من كٌل ناحية ..
أنا : أأحضُر لك شيئا ؟
هو : إين ستذهبين ؟
أنا : الى الكافيتيريا .. احس بالجوع ..
هو : أريد نصف ما ستأكلينه ..
أنا : شيء آخر ؟
هو : بضٌع سنوات اقضيها مع وطني .. ربما ..
أنا : إذهب للجحيـم ..!
هو : أتمنى الجًنة ..
أخرج بعد أن احمًر وجهي .. و غاصت عيناي في الدموع ..
أبكي في طريقي الى تلك الكافيتريا اللعينـة .. يُفاجأ عاملها بكميـة بكٌائي .. أستمر في ترديد طلبي رغم العبرات
اخذ الطلب , أجلس قليلا لأهدىء من روعـي .. انتظر بضع دقائق لـ يذهب احمرار وجنتاي و أنفي ..
ثم أذهٌب إليه ..
أجلس بجانبه على سريره .. أشاركه الوسادة ذاتها , والجلسـة ذاتها , و أنظر إلى التلفزيون برتابة ..
الآف الأخبار عن جرحى وقتلى , تلك النشرة اللعينة .. لما لا تنشر عن ملايين القلوب المطعونة بسكين الفقد , المهددة بخطر الرحيل ..!
احقد سرا على كٌل مذيعي نشرات الاخبار .. و التفت إليه وهو يقضم نصفـه بتمهل , وربما بعدم إشتهاء ..
أبادره : اذا كٌنت لا تشتهي فـلما تأكل ؟
ينظر إلي : إنها الأشهر الاخيره ,ربما الايام الاخيره .. يجب ان نقتسم كٌل شي بيننا ..
تعود الدموع للصعود : اتريد ان تقتلني ذكرىً يا سماءي ؟ !
ألمح في عينيـه حٌزنا كبيرا : أريد أن اترك لك في كٌل شيء أنا .. حتى لا تموتي حٌزنا ياوطن !
أنا بكبرياء : ومن قال بأني لا استطيع العيش بدونـك ؟!
هو : ليس هُناك من لا يستطيع العيش بلا محبوبـه ..! لا تنسي الاقدار ليست بأيدينا .. هُناك من يقتل نفسـه في كٌل افتقاد .. وفي كٌل شوق !
أنا : اقسم بأنك ستقتلني .. مالفرق بين الموت حٌزنا وبين اغراقي بكٌل هذه الذكريـات ! اليس من الأفضل أن اغيب وان اعتاد عدمـك من الآن !
هو : اتريدنني أن اموت غيضـا في الجنـة ؟!
أنا : واموت انا فقدا في الارض ؟ !
هو : نتلقي هُناك في حًال موتـك ..
أنا : يالك من .. من .. من ..
هو : حٌب !؟
أنا : بالطبع لا ..! قصدت متناقض !
يلقي رأسه على كتفي بإهمال .. أهتم أنا بإصلاح الفوضى إلتي أصابت جهاز الأوكسجين .. ويغفو !
أُقبل رأسه .. وأسند رأسي عليه بأخف ما استطيع .. و أبكي !
*وأراك بلا وطـن , ياوطنـي ..
(2)
أقررُ أن اكتب في هذه السـاعة المتأخرة من الليل , ومالذي تفعله تعيسـة مثلي غير الكتابة أو تقليب محطات التلفزيون في مٍثل هذا الوقت ,
زيـارة اليوم لم تكُن أحد الزيارات المُشجعة , كان نائمـا طوال الوقت .. لا يصحو الا ليقلب رأسه او لينظر إلي قليلا .. ويعود للنوم ..
في أحد يقظاته الصغيرة إبتسم واخبرني : أتعلمين أن النوم الكثير مؤشر على إقتراب الموت ؟ !
أجبته بشيء من الحٍدة : وأعلم أيضا بأنك تسخر من القدر ليحيط بك أكثر وأكثر , الا تمل سيرة الموت يارجل .. لن تموت , ليتك فقط تقتنع بهذه الحقيقة ..
-أجابني وهو يغمض عينيه : لا يوجد حقائق هُنا , كلها افتراضات .. ماعدا الموت !
وعاد ليغفو ..
هذا الكائن النـائم بٍ سلام ..
يتركني اغرق في بحر من القلق عندمـا ينطق بتلك الكلمة الثلاثية ..
موت !
أحيـانا أخرج بتفكيري عن المعقول , اتسـائل عن إمكانية وجود مسمى ألطف لنهاية الحياة , كالأنتقال , او الارتفاع ..
فلان إرتفع .. أي ذهب الى السماء ..
وكم كانت بهجتنا كبيرة حين كٌنا صغارا عندمـا نسمع أن فُلانا من الناس ذهًب الى السماء ..
أيمكننا رؤيـة السماء من الداخل ايضا ؟!
فتجيئنا وجوه الكبار متقلبـة , و تبدو إجاباتهم مصطنعة البرود حينما يقولون : كٌلنا ذاهبون إلى السماء , نحن هٌنا فقط لسبب مـا .. ودارنا الأبدية هٌناك ..
– اتوجد ألعاب هُناك ؟
– مالم تره عين ولم تسمع به أُذن ..
– ماذا يعني ؟ الا توجد العاب ؟
– يوجد كٌل شي .. كٌل شي
الجميـع يُنكر الحقيقة المٌرة للموت , ذلك الجسد الذي توقفت كٌل وظائفه يوضع في التراب , تمر الأيام , ثم الأشهر .. ثم السنوات .. فـ لايبقى من ذلك الجسد الذي اعتدنا دفئه واحتضانه سوى بعض البعض , بقايا , لاشيء !
ذلك مايخيفني ,
ترعبني فكرة أن يتحول كٌل من احبهم إلى قطع لا يمكن تجميعها,
أكاد أن اجٌن حينما أفكر في تلك الطريقة ..
يقودني ذلك لـ خمسة عشرة سنة مرت ,
وحكاية الفتاة التي فقدت والدهـا ..
سأسميها : حكاية الفتاة الي رأت الموت !
كان ياما كان , كان هُناك مبنى كئيب , ومعاطف بيضاء , واسرة مرتبة بإسلوب يناسب الموت ..
وكانت هٌناك فتاة صغيرة , و رجل يحلـم بأن يزف فتاته لـ فارسهـا يوما ما .. , رجل يمارس كٌل يوم لعبة السخريـة من الموت .. – كرجل اعرفه في أيامي هذه –
تقبل الفتاة رأس أبيهـا , تقرب طاولة الطعام المتحركة الى سريرهـ ..
يُصر على أنه مازال بأمكانه حمل ملعقة ..
و تخبره بأنه اطعم نفسه بالأمس وتصر على أن اليوم دورها هي , يقبل على مضض ,
يمر الوقت , يخبرهـا بأنه قد شبع .. وتصر هي على أنه لم يأكل شيئا ,
ولكن في النهاية .. حٌكم القوي ع الضعيف !
تعيد كٌل شيء كما كان ,
تجلس بجانبه ويمسـك يدها ..
– أتعلمين بأن هٌناك مكان افضل ؟ | يقول جملته هذه وينظر الى السماء من نافذته ..
– أين ؟
– السماء !
– لم أعٌد صغيرة لأصدق حيلة السماء كما تعلم يا أبي ..
– ليست حيلة , اخترتم أنتم ايها الصغار أن تجعلوها حكاية خيالية . بينما في الحقيقة .. لم نخبركم نحن سوا بالأمر الواقع .. فعلا .. الاموات يرحلون الى السماء ..
– ولكنهم يموتون , تنتهي وظائفهم ..
– تنتهي هٌنا فقط .. هناك اجسام اخرى اكثر شبابا , و نعيم
– ايمكن ان تغير الموضوع ! لا اريد ان احلم في الليل ..
– أريدك فقط أن تهتمي بنفسـك | قالها بعينين دامعتين ..
لم ترتح لـ جملته كثيرا , وبالاخص بعد حديث الموت هذا !
– حسنا , انتهى وقت الزيارة ..
– اراك غدا ؟
– ربمـا !
ذهبت الى المنزل , حضرت دروسهـا واستعدت للغد كما لو كان الغًد يوماً عاديا , ولكن ..
هناك شيء ما ينقص تدريجيا في داخلها , ذلك الإحساس الخانق ..
– لا شيء .. قال بأنه سيراني غدا ..
ثم تتردد كلمة ربمـا كما لو إنها قيلت للتو , تتجه بقدمين مترددتين إلى غرفـته .. تلك الغرفة الخاوية منذُ اسابيع .. لم تشعر بخوائها الحاد قبل هذه الليلة ..
في وقت متأخر من الليل , تعود هذه الفتاة الصغيرة الى المشفى حاملة معها حقيبتها المدرسية و حقيبة أخرى صغيرة وضعت فيها ملابس للغد ..
وكأن الممر يزيد طولا , وكان الوقت يتوقف ..
والقلب في انقباض ,
وحدة المعالجـة المركزيـة ::
تدخل الصغيرة , وأمامها واجهة غرفة أبيـها المصنوعـة من الزجاج , يقابلها ذلك الوجه الخالي من الحياة ..
و يدي ممرضة غير مبالية تقوم بإنتزاع كٌل الاجهزة الحيويـة معلنة حالة الرحيـل رسميا !
باقي تلك القصـة لا أعلمه حقيقة ,
لم اشعر بشيء ..
ذلك الفراغ القاتل الذي سكنني منذُ تلك اللحظة وحتى الآن , ذلك الجنون الذي يجعلني أتخيل كٌل شخص احبه بين التراب يُصارع ولا احد يعلم بـه .. ثم يخيل إلي عظاما متآكله ..
أسُكت صوت هلوساتي بحبة منومـة , واذهب عميقـا ..
تسألنُي صديقة : اتدعين لوالدك ..؟!
وكيف لا ادعو لـه , والله فتح السماء لنا إلى النفس الأخير .. وكيف لا ادعو لـه و قد كان الفارس الأول , والرجل الأول , والطفل الأول , ومبتدأ كٌل امري ..
تسألني اخرى , ابغضها : ولما لا تختمين ذكره بـ رحمه الله .؟!
لا إجابة لي على ذلك السؤال , هي عادة اتبعهـا بصوتي حتى أظل على قناعتي بأن الاموات هٌنا , في مكان ما , يرقبون همساتنا لهـم .. يضحكون معنـا , يبكون حالنا عندمـا نحتضن الوسائد ونبكي فقدهم في ليالي الشتاء ..
الموت , الموت , الموت ,
لا اعلم إن كٌنت قد خرجت عن هذه السيرة منذُ ابتدأت الكتابة ..
جزا الله شخصـا اعرفهٌ على الاكتئاب الذي أصابني ..
رجُل يشبه أبي .. لذلك وقعت به منذُ اللقاء الأول , ومنذُ الضحكة الاولى .. وتلاعبت بـ قلبي لأقنعه بأن لا شيء حصل في ذلك اللقاء سوى محاولة غزل احبطتها بكٌل نجاح ..
ولم تكُ كذلك !
* هو رجل يمكن أن يقذف إليكٍ إلى الجنون بجملـة , غبية هي المرأة التي تٌحب رجلا يجيد الرقص مع الكلمـات , كانت لعبتنا كلاميـة منذُ البداية
*ما بعد الصُدفة الأولى :
أستغرق التفكير بـي طويلا ..
كم هو غريب ذلك الرجٌل , لا لا .. هو ليس غريباً .. مجرد محترف غًزل آخر ,
ولكنه لم يقٌل شيئا مُحرما في الحقيقة , انا من دفعته بقوة لأسباب لا اعرفهـا ..
تأكلني الفكرة بعد الفكرة ,
أتأتي بـه صٍدفة أخرى ياترى !
أتجه إلى ذلك المقهى , اختار رواية بوليسية لترافقني , ربمـا انخرط في احداث الرواية واختفي عن الانظار كالقاتل الذي لا يعرفه احد الا في نهاية الامر رغم أنه ومنذُ البداية كًان تحت انظار الجميع ..
لـ تعرف القاتل في رواية بوليسة , انظر الى ابرئ الأبرياء .. وضع تحته ألف خط , ان اخطأت فأنظر الى الذي يليه برائـة !
ماعلينـا !
أصٍل إلى المكان , أجد انني وذلك الكٌرسي مانزال على اتفاق .. دليل ذلك أنه ظل فارغـا ينتظرني رٌغم ازدحام المقهى في هذه الساعة من النهار ..
أجلس , اطلب قهوتـي مرةُ وانظر لمغلفات السُكر بأبتسـامة ..
أحٌب ان اضيف السُكر بنفسي ,
تأتيني القهوة في ذلك الكوب الأبيض الصغير , اتركها قليلا واشرد مع أحداث الروايـة ,
وأشرد ,
واصحو من شرودي ..
أرتشف قهوتي على مهـل ,
وأعود لأحداث الروايـة ..
ولاشيء يحدث .. يبدو أن الامور لن تسير كما أتوقع اليوم ..
غبية أنا , عندمـا ظننت ان فُرصة – اقصد صُدفة – قد تتكرر مرة أخرى ,
ولي أنا بالذات !
هه ! سخرت من نفسي كثيرا .. لن يأتي .. وما أدراه بأن من صًدته منذُ ايام قليلة .. قد تكون فعلا راغبة في معرفة غُربته وتفاصيله .. حتى ولو اخفت ذلك تحت غطاء من التمنع واللامبالاة ..
أضحك على فكرة قدومي لهذا المكان بشعـر منسدل و مساحيق تجميل خفيفة وفٌستان أبيض ..
كانت تلك دعوة مني للصُدف .. هُدنة معها اشترطت فيـها ان تسير كما أُريد قليلا .. ولا يبدو أن الصُدف تحب حالات السٍلم المؤقتة ..
أنهيت الروايـة .. وكنت قد قضيت هُناك ثلاث ساعات ,
هه .. ثلاث ساعات تقضيـها امرأة وحيدة في مقهى , كم من البؤس قد يحمٍل ذلك ..
أرتب أشيائي , امضي بقليل من الخيبة خارج هذا المكان ,
إلى ذلك الطريق .. اخترت ألا انظر في وجـه احد من العابرين .. أحس بتواطؤ خفي بينهم وبين النهار .. و أحس كما لو كان الكٌل ينظر إلي بشفقـة على حًال صبية ارتأت فرصـة للحٌب في صدفة من الصدف ..
– أتنوين الوقوع بهذه المشيـة ؟!
أتوقف ! ارفع رأسي فأراه .. هو , بقميص أزرق لايظهر من زُرقته إلا القليل وسط ذلك المعطف الأسود – بالرغم من دفيء الجو –
وبشرة سمراء ودقن خفيف , عينين تحملان كثيرا من الحياة , ملامح عربية , ولا شي سوا العروبـة في هذا الوجه ..
– حسنا .. سأغفر لك خطيئة التحديق , ولكن يجب أن تتوقفي عن ذلك
– آسفة ..
– قال بابتسامة عريضـة : آتيتي من أجل إن تريني مرة أُخرى أليس كذلك ؟
– أجبته بشيء من التصنع والكبرياء : أنت مغرور , إنا أفضل ذلك المقهى فـ حسب ..
– ازدادت ابتسامته عرضـا : ومالجميل في مقهى يقع في زاويـة , يقدم قهوة تقدمها جميع المقاهي الأخرى ..
– فلنقل أني أحب الزوايا .. ثم لا شأن لك ..
– قال وهو يغمز : حسنا ..
تجاوزته بعدة خطوات لأجده يمشي معي جنبا إلى جنب ..
توقفت .. نظرت إليه بحدة ..
– ألا يوجد ما تمارسه غير هذا ؟
– وماهذا ؟
– أشرت إلى نفسي وإليه : هذا !
– أطال النظر إلي .. ثم قال بصوت يملئه الدفيء : تبدين جميلة اليوم .. الأبيض يناسبك كثيرا ..
– ضحكت مستفزة إياه : ألا تملون هذه الألعاب ؟
– شاركني الإستفزاز ذاته : أتقصدين لُعبة الذهاب إلى نفس المكًان للقاء ذات الشخص .. على أنها صُدفة ؟
كان مُحقا , إنا من يلعب هُنا , وندمت .. عندما رأيته فعلا ندمـت .. مالي أنا ولألعاب العشق والهوى ..
أتيت سائحـة وحيدة وأردت ذلك .. أردته بشدة , لا يجب أن اترك وحدتي هذه من أجل شخص لن يستطيع احتمالي لو عرفني حق المعرفـه .. وسيمل لو دخل إلى عالم تفاصيلي المهترئـة ..
– حسنا , وداعا ..
– ولما الوداع ؟
توقفت , نظرت إلى الأرض , لم أكن اشعر بشيء سوا الفراغ .. كُنت احتاج لصديق , بالرغم من اختياري التوحدي !
– بادرني : تعالي معي ..
– نظرت إليه بخوف : ماذا ؟
– ابتسم : لن آخذك إلى مكًان فيه أربع جدران , أو أربع أبواب .. سنمشي قليلا , اعتبريني من جهة عًمل أو شيء من هذا القبيل !
– قدمـت سائحة ..
– حسنا , أتقبلين ب دليلا سياحيا يا انسـه ..؟
– ههههههه , حسنا ً
– ماذا تريدين أن تري .؟
– مكان لا يغادر الذاكرة ..
– أممممممممم , حسنا .. ولكن الطريق بعيد ,
– استطيع المشي ,
– والعودة ؟
– سأعود بمفردي في سيارة أجرة ..
– والعبد المسكين المغلوب على أمره سيقطع الطريق عودة على قدميه المتعبتين ..
– إن كُنت لا تريد , لا بأس ..
– لا لا .. العبد المسكين يتشرف في العودة .. صدقيني
– ههههههههههههه حسنا ..
وابتدأنا المشي سويـا ,
لم أكن اعلم سْر قدومـه , و لا حتى اسمه , لا اعلم حتى ماركة قميصه أو ساعته ,
مشينا بصًمت , إلى أن نفذ صمته فبدأ أسئلته الغير معتادة :
– هو : ألا تجدينه من الغريب .. أن تأتي سائحة بمفردهـا , في هذا الوقت من السنة ؟
– أنا : لكٌل طقوسه الخاصـة , أفضَل الأوقات التي تجعلني أبدو كالغريبة هُنا ,
– هو : تمارسين الوحدة إذن ؟
– أجبته بسخرية : وهًل هٌناك أجمل ؟
– هو : خيبة حٌب سابقة ؟
– نظرت إليه , ثم إلى أماكن متفرقة : في الحقيقة لا
– هو : أيعقل ؟
– أنا : ماذا ؟
– هو : ألم تُحبي من قبل ؟
– أنا : سؤالك شخًصي جدا
– هو : لا تلعبي معي العاب الانجليز , أن ارادو تجنب سؤال مـا وصفوه بالشخصي حتى حٌرمت كُل الأسئلة لديهم ..
– أنا : حسنا حسنا , لا لم أجرب الحٌب قط ..
– هو : إذن أنت لو تولدي بعد ؟!