قصيدة أنشودة المطر وتحليلها
قصيدة أنشودة المطر
قصيدة سياسية من قصائد الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب كتبها عام 1954، وُلد قرب البصرة عام 1926 ودرس في دار المعلمين. اهتمّ بالسياسة منذ الصغر، وتنقّل في أفكاره بين الشيوعي والقومي، وبسبب مشاركاته السياسية سُجن أكثر من مرّة، وبعدها تمّ نفيه إلى مصر لتنطلق قريحته الشعرية على اتمّ وجهها. كان نحيلاً فقيراً طوال حياته، إذ عمل في مختلف الوظائف المتواضعة: فكان عاملاً، ومستخدماً، ومراقب كهرباء، إلا أنّ الحياة الصعبة لم تقف قاعقاً من إقباله على الثقافة و تعلّم الغة الإنجليزية، ومتابعة السياسة، وأوضاع الأمّة، وكتابة الشعر السياسي بكمّ غير قليل من الغموض الحيرة. مات عام 1964 في الكويت بعد مصارعة طويلة مع مرض السّل. (1)
تحليل قصيدة أنشودة المطر
قبل تحليل القصيدة، ما هو المضمون أو الموضوع الرئيس فيها؟
مضمون القصيدة
يتحدّث الشاعر عن امرأة، قد تكون امرأة حقيقة يقصدها، أو أنّه يُشبّه العراق بالمرأة الفاتنة، فيصف عينيها بالنخيل في الظلام، و بالشّرفة عد انسحاب القمر بعيداً عنها، فتغرق في ظلام الليل، فالشجر يكتسب اللون الأخضر، وتتراقص الأضواء في صفحة الماء لتشبه الأقمار، وكأن النجوم تتلألأ في مِحجر العين، إلا أن هاتان العينان تغرقان في حزن يتشابه وحزن البحر في فترة المساء. فتضمّ الصورة تناقضات دفء الشتاء، وذبول الخريف، إضافة إلى الموت، والميلاد، والعتمة، والضياء. كل هذه الصور تسبّب حاجة ضرورية في نفس الشاعر بالبكاء، وشعوراً آخر بالنّشوة التي ترتقي بروحه إلى عنان السماء، كنشوة طفل شدّه جمال القمر وأخافه من الغموض الذي يحتويه.
يملأ الشاعر في هذه اللحظة المتزامنة مع نزول المطر فرحة أطفال في بلاده، وسعادتهم وسط كروم العنب استبشاراً بسقوط المطر، كما يشعر بصغار العصافير وقد أحسّت كما الأطفال باللحظة، وتمّنت أن يكون نزول المطر وشيكاً أيضاً، بل وهتفت معهم (مطر) أملاً واستبشاراً بقدومه. (2)
تحليل القصيدة
سقط المطر، وجاء النهار، ورحل المساء، وجادت السماء بمطر يتشابه والدموع المقهورة، فتتقارب صورة نزول المطر وهذيان طفل فقد أمّه، فبحث عنها في كلّ مكان دون جدوى، وعندما سأل عنها طمأنه الجميع أنّها ستعود ولن يطول بها الغياب، إلا أنّهم يتهامسون فيما بينهم بما حصل لها، فقد ماتت ودُفنت منذ زمن، وتشرّبت الأمطار إلى داخل قبرها. وتتوافق صورة الطفل هذا بالصياد الحزين الذي لا ييأس من تكرار محاولة صيد الأسماك يوميّاً مُدندناً بالألحان، وهما صورتان تتشابهان وأمنية الشاعر بأن يكون المطر بداية الخير على العراق وأهلها.
يظهر لنا في القصيدة أن المطر بدلاً من أن يكون سبباً في فرح الشاعر فقد كان مُسبّباً للحزن، وقد سُحِب حزن الشاعر هذا المزاريب التي تسرّب من خلالها المطر، واصفاً وقع المطر على الشخص المفرد، وكيف يُشعره بالضياع بدلاً من أن يُشعره بالطمانينة. فالمطر يشبه الدم المسفوك في الشوارع، ويشبه جياع العراق، والحب والأطفال، وحتى الموتى. ويتذكر الشاعر العينين اللتين ذكرهما في البداية، فما زال يرى عينيها، وما زال يرى أمواج الخليج، والرعود التي تمسح شواطئ العراق بالنجوم واللؤلؤ من خلال عينيها، وكأن هذه الشواطئ وأهلها يسعون إلى النهوض من الواقع المر الذي يعيشون فيه، ويودون تغييره إلى الأفضل، إلا أنّ الليل والظلم يغطي الشواطئ، وفي هذه اللحظة يتدخّل الشاعر منادياً الخليج الذي يهب اللؤلؤ والمحار والموت لأهله، ليجود عليهم بالخير، غير أنّ صيحته ترتّد راجعة له كالبكاء، مردّدة نفس الصيحة دون تلبيتها.
ومع ذلك لا ييأس الشاعر من سقوط المطر طمعاً بتغيّر الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية السيئة، فتراه يسمع صوت العراق وأهله وهم يُخزّنون الحزن والثورة في كل بقعة من بقاع أرض العراق، ينتظرون يوماً يُعصَف فيه بكل الطغاة، ولا يبقون لهم أثراً على أرض الوطن.
يتصوّر الشاعر أن المطر قد تساقط على نخل العراق، وقام النخل بامتصاص كميّات المطر النازلة عليه جميعها، كما يتخيّل، بل يسمع صوت أنين أهل القرى وشكواهم، ويرى من هاجر ورحل عن الوطن وهم يرجعون إليه، يصارعون عواصف الخليج العاتية بمجاذيفهم وصواري القوارب، هدفهم الوصول إلى شطّ الأمان، يُغنّون للمطر الذي يُشكّل عنوان خلاصهم من المآسي التي تحيط بهم.
ومع إيمان الشاعر وإيمانهم بأن المطر سينزل بالتأكيد، إلا أنّ نزوله لن يحلّ ما يواجهونه من مشاكل، كالفقر، والقهر، والجوع ، فبالرغم من سقوط المطر، وجودة مواسم الحصاد، إلا أنهم مازالوا يعانون من الجوع والفقر، لأن خيرات المحاصيل لن تعود على المزارعين والحصّادين، بل سيجنيها الغربان والجراد المستعمرين للبلاد، ليشبعوا ويزيدوا من ثرواتهم، بينما يحصل الشعب على الفتات. ونرى الشاعر يُبدي تفاؤلاً عند ذكر إصرار هؤلاء البؤساء على أمل نزول المطر الذي سيغير البؤس، ويسحق الظلم.
ويستذكر السياب بمناسبة نزول المطر صورة المواطن عندما يرحل من وطنه طلباً للرزق أو هرباً من الظلم. وما زال يستذكر طفولته كان يرى الغيوم شتاء، ويراقب نزول المطر، وكانت الأرض تهتز بقطراته وتربت بالزرع الأخضر، إلا أن جوع الشعب مازال باستمرار رغم كثرة الخير، وكان ذلك يتكرر كل عام أيضاً.
ومع كل الظروف التي تحيط بالشعب العراقي إلا أنهم مازالوا يفرحون بالمطر، وكأنه في نظرهم سيغسل أرض العراق ويطهّرها من معاناة الظلم والقهر. فتجد أن المطر آتٍ لا محالة، وأن طيف ألوان هذا المطر بدأت ترتسم على الأزهار والنباتات البلاد بجميع ألوانها، كما بدت ترتسم على وجوه أبناء الشعب الجياع، وأن كل قطرة من الدماء ستتحول إلى أمل على ثغر الطفل الذي سيولد، ذلك الذي يحمل في دمائه الإصرار على التغيير، والثورة على الواقع، لهدم مجد الظالمين.
فالخليج في نظر الشاعر يهب أهل بلده اللؤلؤ والمحار الثمين، وهو في الوقت ذاته يهب الأرض أملاحاً لا نفع منها، ويرمي على الشواطئ عظام صياد فقير قضى نحبه فيه وهو يغوص في الأعماق مصارعاً الأمواج، وفي المقابل، ترى في العراق آلاف الأفاعي التي لا تقوم إلا بامتصاص دماء الفقراء، والتمتع بخيرات العراق. وما زال الشعار لا يجد إلا صدى صوته ينادي بالخليج راجياً منه قدوم المطر، راجياً أن المطر هذه النرة سيكون هو ما سيُحقّق تضحيات الشعب، آملاً أن يكون نزول المطر هو الأمل الذي ينتظره الجميع وأن أمله في سقوط المطر سيكون الانتقام لكل من ألحق الأذى بأبناء الشعب. (3)
أسلوب القصيدة
استخدم الشاعر في هذه القصيدة أساليب متعددة كي يرسم صوراً واقية يعيشها شعبه وأمته، وعبّر في ذات الوقت نفسه عن صراع هذه الأمة من أجل الوصول إلى حلمها في الثورة على الظلم، وتغيير الشقاء الذي يحيط بها وتعيش فيه، حتى ترسم مستقبلها كما تريد هي، لا كما يريده غيرها لها. إنّ التنوع في قوالب عرض الأزمات التي أراد الشاعر التعبير عنها إنما هو نابع من الأدوار التي تعيش فيها الأمة، كما أنّه يساعد على جذب اهتمام أبناء أمته إليها، وسيكون له أثر فاعل في إيمان الأبناء بضرورة التغيير، والتبشير به والعمل على تحقيقه حتى النهاية.
استعمل الشاعر أسلوب التصوير القائم على التشابه بين الماديّات والمعنويات، كما عمد إلى استثمار الصور المتناقضة، واستخدام أسلوب الطلبية من استفهام، وتعجّب، وتقرير، ونداء، ومقارنة، وتكرار الألفاظ والمقاطع.
كانت الصور مُستمدّة من البيئة، من الخليج، والغيوم، والمطر، والصيادين، والمحّار، واللؤلؤ، والموتى على الشواطئ، والنخيل وهو يشرب المطر، وقطرات المطر الملونة، والأرض الحبلى بالخيرات، وغيرها الكثير من صور الأرض والسماء والإنسان. (4)
نص قصيدة أنشودة المطر
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر .
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء … كالأقمار في نهَرْ
يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر
كأنما تنبض في غوريهما ، النّجومْ …
وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ
كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء ،
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف ،
والموت ، والميلاد ، والظلام ، والضياء ؛
فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء
ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء
كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر !
كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ
وقطرةً فقطرةً تذوب في المطر …
وكركر الأطفالُ في عرائش الكروم ،
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودةُ المطر …
مطر …
مطر …
مطر …
تثاءب المساء ، والغيومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ .
كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام :
بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عامْ
فلم يجدها ، ثمَّ حين لجّ في السؤال
قالوا له : “بعد غدٍ تعودْ .. “
لا بدَّ أن تعودْ
وإِنْ تهامس الرفاق أنهَّا هناكْ
في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ
تسفّ من ترابها وتشرب المطر ؛
كأن صياداً حزيناً يجمع الشِّباك
ويلعن المياه والقَدَر
وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ .
مطر ..
مطر ..
أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر ؟
وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر ؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع ؟
بلا انتهاء – كالدَّم المراق ، كالجياع ،
كالحبّ ، كالأطفال ، كالموتى – هو المطر !
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ
سواحلَ العراق بالنجوم والمحار ،
كأنها تهمّ بالشروق
فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ .
أَصيح بالخليج : ” يا خليجْ
يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والرّدى ! “
فيرجعُ الصّدى
كأنّه النشيجْ :
” يا خليج
يا واهب المحار والردى .. “
أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ
ويخزن البروق في السّهول والجبالْ ،
حتى إِذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ
لم تترك الرياح من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ .
أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر
وأسمع القرى تئنّ ، والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع ،
عواصف الخليج ، والرعود ، منشدين :
” مطر …
مطر …
مطر …
وفي العراق جوعْ
وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ
لتشبع الغربان والجراد
وتطحن الشّوان والحجر
رحىً تدور في الحقول … حولها بشرْ
مطر …
مطر …
مطر …
وكم ذرفنا ليلة الرحيل ، من دموعْ
ثم اعتللنا – خوف أن نلامَ – بالمطر …
مطر …
مطر …
ومنذ أنْ كنَّا صغاراً ، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
ويهطل المطر ،
وكلَّ عام – حين يعشب الثرى – نجوعْ
ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ .
مطر …
مطر …
مطر …
في كل قطرة من المطر
حمراءُ أو صفراء من أجنَّة الزَّهَرْ .
وكلّ دمعةٍ من الجياع والعراة
وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظار مبسم جديد
أو حُلمةٌ تورَّدتْ على فم الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة !
مطر …
مطر …
مطر …
سيُعشبُ العراق بالمطر … “
أصيح بالخليج : ” يا خليج ..
يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! “
فيرجع الصدى
كأنَّه النشيج :
” يا خليج
يا واهب المحار والردى . “
وينثر الخليج من هِباته الكثارْ ،
على الرمال ، : رغوه الأُجاجَ ، والمحار
وما تبقّى من عظام بائسٍ غريق
من المهاجرين ظلّ يشرب الردى
من لجَّة الخليج والقرار ،
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرَّحيقْ
من زهرة يربُّها الفرات بالنَّدى .
وأسمع الصدى
يرنّ في الخليج
” مطر ..
مطر ..
مطر ..
في كلّ قطرة من المطرْ
حمراء أو صفراء من أجنَّةِ الزَّهَرْ .
وكلّ دمعة من الجياع والعراة
وكلّ قطرةٍ تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظار مبسمٍ جديد
أو حُلمةٌ تورَّدت على فم الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة . “
ويهطل المطرْ ..
المراجع
(1) بتصرّف عن نبذة حول الشاعر: بدر شاكر السياب، adab.com
(2) بتصرّف عن مقالة أنشودة المطر.. اللوعة إلى آخرها، أ. د. عبد الحليم المدني، alittihad.ae
(3) بتصرّف عن دروس في اللغة العربية – بدر شاكر السيّاب، أنشودة المطر – تحليل القصيدة، schoolarabia.net
(4) بتصرّف عن مقالة الإيقاع الحزين في شعر السياب، مليكة فريحي، oudnad.net