قصيدةغزل عيناكي لنزار قباني
نزار قبّاني
نزار توفيق القباني شاعر سوري معاصر، تغنّى بجمال المرأة، عُرِف أنّه شاعر الحب والحرب، فكما كتب قصائد غزلية مازالت خالدة إلى يومنا هذا، كتب أيضاً عن الحرب والسياسة والقوانين العربية، وترك خلفه ديواناً كبيراً ضمّ آراءه وما يراه من الواقع العربي.
قصيدة نهر الأحزان
عيناكِ كنهري أحـزانِ
نهري موسيقا.. حملاني
لوراءِ، وراءِ الأزمـانِ
نهرَي موسيقا قد ضاعا
سيّدتي.. ثمَّ أضاعـاني
الدمعُ الأسودُ فوقهما
يتساقطُ أنغامَ بيـانِ
عيناكِ وتبغي وكحولي
والقدحُ العاشرُ أعماني
وأنا في المقعدِ محتـرقٌ
نيراني تأكـلُ نيـراني
أأقول أحبّكِ يا قمري؟
آهٍ لـو كانَ بإمكـاني
فأنا لا أملكُ في الدنيـا
إلا عينيـكِ وأحـزاني
سُفُني في المرفأ باكيـةٌ
تتمزّقُ فوقَ الخلجـانِ
ومصيري الأصفرُ حطّمني
حطّـمَ في صدري إيماني
أأسافرُ دونكِ ليلكـتي؟
يا ظـلَّ الله بأجفـاني
يا صيفي الأخضرَ يا شمسي
يا أجمـلَ.. أجمـلَ ألواني
هل أرحلُ عنكِ وقصّتنا
أحلى من عودةِ نيسانِ؟
أحلى من زهرةِ غاردينيا
في عتمةِ شعـرٍ إسبـاني
يا حبّي الأوحدَ.. لا تبكي
فدموعُكِ تحفرُ وجـداني
إنّي لا أملكُ في الدنيـا
إلا عينيـكِ وأحزاني
أأقـولُ أحبكِ يا قمـري؟
آهٍ لـو كـان بإمكـاني
فأنـا إنسـانٌ مفقـودٌ
لا أعرفُ في الأرضِ مكاني
ضيّعـني دربي.. ضيّعَـني
اسمي.. ضيَّعَـني عنـواني
تاريخـي! ما ليَ تاريـخٌ
إنـي نسيـانُ النسيـانِ
إنـي مرسـاةٌ لا ترسـو
جـرحٌ بملامـحِ إنسـانِ
ماذا أعطيـكِ؟ أجيبيـني
قلقـي؟ إلحادي؟ غثيـاني
ماذا أعطيـكِ سـوى قدرٍ
يرقـصُ في كفِّ الشيطانِ
أنا ألـفُ أحبّكِ.. فابتعدي
عنّي.. عن نـاري ودُخاني
فأنا لا أمـلكُ في الدنيـا
إلا عينيـكِ… وأحـزاني.
قصائد أخرى لنزار قبّاني
من القصائد الأخرى التي أبدعها نزار قبّاني ما يأتي:
قصيدة الحزن
علّمني حبّك أن أحزن
وأنا محتاج منذ عصور
لامرأة تجعلني أحزن
لامرأة أبكي بين ذراعيها
مثل العصفور
لامرأة تجمع أجزائي
كشظايا البلّور المكسور
علّمني حبّك.. سيدتي
أسوأ عادات
علّمني أفتح فنجاني
في الليلة ألاف المرّات
وأُجرّب طبّ العطّارين
وأطرق باب العرّافات
علّمني أخرج من بيتي
لأمشّط أرصفة الطرقات
وأطارد وجهك
في الأمطار، وفي أضواء السيارات
وأطارد طيفك..
حتى .. حتى ..
في أوراق الإعلانات ..
علّمني حبك..
كيف أهيم على وجهي ساعات
بحثاً عن شعر غجري
تحسده كل الغجريّات
بحثاً عن وجهٍ..عن صوتٍ..
هو كل الأوجه و الأصواتْ
أدخلني حبّكِ، سيدتي
مدن الأحزانْ..
وأنا من قبلكِ لم أدخلْ
مدنَ الأحزان..
لم أعرف أبداً
أن الدّمع هو الإنسان
أن الإنسان بلا حزنٍ
ذكرى إنسانْ..
علمني حبكِ
أن أتصرف كالصبيانْ
أن أرسم وجهك ..
بالطبشور على الحيطانْ..
وعلى أشرعة الصيادينَ
على الأجراس..
على الصلبانْ
علّمني حبكِ..
كيف الحبُّ يغير خارطة الأزمانْ..
علّمني أني حين أحبُّ..
تكفّ الأرض عن الدورانْ
علّمني حبّك أشياءً..
ما كانت أبداً في الحسبانْ
فقرأت أقاصيصَ الأطفالِ..
دخلت قصور ملوك الجانْ
وحلمتُ بأن تتزوّجني
بنتُ السلطان..
تلك العيناها أصفى من ماء الخلجانْ
تلك الشفتاها أشهى من زهر الرّمانْ
وحلمتُ بأنّي أخطفها
مثل الفرسانْ
وحلمت بأني أهديها
أطواق اللؤلؤ والمرجانْ
علّمني حبّك يا سيدتي ما الهذيانْ
علّمني كيف يمر العمر..
ولا تأتي بنت السلطانْ..
علّمني حبّكِ
كيف أحبّك في كل الأشياءْ
في الشجر العاري..
في الأوراق اليابسة الصفراءْ
في الجو الماطر في الأنواءْ..
في أصغر مقهى..
نشرب فيهِ، مساءً، قهوتنا السوداءْ..
علّمني حبّك أن آوي
لفنادقَ ليس لها أسماءْ
وكنائس ليس لها أسماءْ
ومقاهٍ ليس لها أسماءْ
علّمني حبكِ
كيف الليلُ يُضخّم أحزان الغرباءْ..
علّمني كيف أرى بيروتْ
امرأة..طاغية الإغراءْ..
امراةً تلبس كل كل مساءْ
أجمل ما تملك من أزياءْ
وترشّ العطر على نهديها
للبحّارةِ والأمراء
علّمني حبّك
أن أبكي من غير بكاءْ
علّمني كيف ينام الحزن
كغلامٍ مقطوع القدمينْ
في طرق (الروشة) و (الحمراء).
علّمني حبّك أن أحزنْ
وأنا محتاج منذ عصور
لامرأة.. تجعلني أحزن
لامرأة.. أبكي بين ذراعيها..
مثل العصفور..
لامرأة تجمع أجزائي..
كشظايا البللور المكسور.
قصيدة حب بلا حدود
يا سيِّدتي:
كنتِ أهم امرأةٍ في تاريخي
قبل رحيل العامْ.
أنتِ الآنَ أهمُّ امرأةٍ
بعد ولادة هذا العامْ..
أنتِ امرأةٌ لا أحسبها بالساعاتِ وبالأيَّامْ.
أنتِ امرأةٌ
صُنعَت من فاكهة الشِّعرِ
ومن ذهب الأحلامْ
أنتِ امرأةٌ كانت تسكن جسدي
قبل ملايين الأعوامْ..
يا سيِّدتي:
يالمغزولة من قطنٍ وغمامْ.
يا أمطاراً من ياقوتٍ..
يا أنهاراً من نهوندٍ..
يا غاباتِ رخام..
يا من تسبح كالأسماكِ بماءِ القلبِ..
وتسكنُ في العينينِ كسربِ حمامْ.
لن يتغيرَ شيءٌ في عاطفتي..
في إحساسي..
في وجداني.. في إيماني..
فأنا سوف أَظَلُّ على دين الإسلامْ..
يا سيِّدتي:
لا تَهتّمي في إيقاع الوقتِ وأسماء السنواتْ
أنتِ امرأةٌ تبقى امرأةً.. في كلَِ الأوقاتْ
سوف أحِبُّكِ..
عند دخول القرن الواحد والعشرينَ..
وعند دخول القرن الخامس والعشرينَ..
وعند دخول القرن التاسع والعشرينَ..
وسوفَ أحبُّكِ..
حين تجفُّ مياهُ البَحْرِ..
وتحترقُ الغاباتْ..
يا سيِّدتي:
أنتِ خلاصةُ كلِّ الشعرِ..
ووردةُ كلِّ الحرياتْ.
يكفي أن أتهجى اسمَكِ..
حتى أصبحَ مَلكَ الشعرِ..
وفرعون الكلماتْ..
يكفي أن تعشقني امرأةٌ مثلكِ..
حتى أدخُلَ في كتب التاريخِ..
وتُرفعَ من أجلي الراياتْ..
يا سيِّدتي
لا تَضطربي مثلَ الطائرِ في زَمَن الأعيادْ.
لَن يتغيرَ شيءٌ منّي.
لن يتوقّفَ نهرُ الحبِّ عن الجريانْ.
لن يتوقّف نَبضُ القلبِ عن الخفقانْ.
لن يتوقّف حَجَلُ الشعرِ عن الطيرانْ.
حين يكون الحبُ كبيراً..
والمحبوبة قمراً
لن يتحول هذا الحُبُّ
لحزمَة قَشٍّ تأكلها النيرانْ.
يا سيِّدتي:
ليس هنالكَ شيءٌ يملأ عَيني
لا الأضواءُ
ولا الزّيناتُ
ولا أجراس العيد
ولا شَجَرُ الميلادْ
لا يعني لي الشارعُ شيئاً
لا تعني لي الحانةُ شيئاً
لا يعنيني أي كلامٍ
يكتبُ فوق بطاقاتِ الأعيادْ.
يا سيِّدتي:
لا أتذكَّرُ إلا صوتُكِ
حين تدقُّ نواقيس الآحادْ
لا أتذكرُ إلا عطرُكِ
حين أنام على ورق الأعشابْ
لا أتذكر إلا وجهُكِ
حين يهرهر فوق ثيابي الثلجُ
وأسمعُ طَقْطَقَةَ الأحطابْ.
ما يُفرِحُني يا سيِّدتي
أن أتكوَّمَ كالعصفور الخائفِ
بين بساتينِ الأهدابْ.
ما يَبهرني يا سيِّدتي
أن تُهديني قلماً من أقلام الحبرِ
أعانقُهُ
وأنام سعيداً كالأولادْ.
يا سيِّدتي:
ما أسعدني في منفاي
أقطِّرُ ماء الشعرِ
وأشرب من خمر الرُّهبانْ
ما أقواني
حين أكونُ صديقاً
للحريةِ والإنسانْ…
يا سيِّدتي:
كم أتمنى لو أحببتُكِ في عصر التَنْويرِ
وفي عصر التّصويرِ
وفي عصرِ الرُوَّادْ
كم أتمنى لو قابلتُكِ يوماً
في فلورنسَا
أو قرطبة
أو في الكوفَة
أو في حَلَب
أو في بيتٍ من حاراتِ الشامْ.
يا سيِّدتي:
كم أتمنى لو سافرنا
نحو بلادٍ يحكمها الغيتارْ
حيث الحبُّ بلا أسوارْ
والكلمات بلا أسوارْ
والأحلامُ بلا أسوارْ
يا سيِّدتي:
لا تَنشَغِلي بالمستقبلِ، يا سيدتي
سوف يظلُّ حنيني أقوى ممّا كانَ
وأعنفَ ممّا كانْ..
أنتِ امرأةٌ لا تتكرَّرُ في تاريخ الوَردِ..
وفي تاريخِ الشعْرِ
وفي ذاكرةَ الزنبق والريحانْ.
يا سيِّدةَ العالَمِ
لا يُشغِلُني إلا حُبُّكِ في آتي الأيامْ
أنتِ امرأتي الأولى
أمي الأولى
رحمي الأولُ
شَغَفي الأولُ
شَبَقي الأوَّلُ
طوق نجاتي في زَمَن الطوفانْ.
يا سيِّدتي:
يا سيِّدة الشِعْرِ الأُولى
هاتي يَدَكِ اليُمْنَى كي أتخبَّأ فيها
هاتي يَدَكِ اليُسْرَى
كي أستوطنَ فيها
قولي أيَّ عبارة حُبٍّ
حتى تبتدئَ الأعيادْ.
قصيدة طوق الياسمين
شكراً لطوق الياسمين
وضحكت لي، وظننتُ أنّك تعرفين
معنى سوار الياسمين
يأتي به رجل إليك
ظننتُ أنك تدركين.
وجلستِ في ركن ركين
تتسرّحين
وتُنقّطين العطر من قارورة وتُدمدمين
لحناً فرنسيّ الرنين
لحناً كأيامي حزين
قدماك في الخفّ المُقصّب
جدولان من الحنين
وقصدتُ دولاب الملابس
تقلعين وترتدين
وطلبتِ أن أختارَ ماذا تلبسين
أَفَلي إذاً؟
أَفَلي أنا تتجمّلين ؟
ووقفتُ في دوّامة الأوان مُلتهب الجبين
الأسود المكشوف من كتفيه
هل تتردّدين.
لكنّه لون حزين
لونٌ كأيامي حزين
ولبستِه
وربطتِ طوق الياسمين
وظننتُ أنك تعرفين
معنى سوار الياسمين
يأتي به رجل إليك
ظننتُ أنّك تدُركين..
هذا المساء
بحانة صغرى رأيتك ترقصين
تتكسّرين على زنود المعجبين
تتكسّرين
وتُدمدمين
في أُذن فارسك الأمين
لحناً فرنسيّ الرنين
لحناً كأيامي حزين
وبدأت أكتشفُ اليقين
وعرفتُ أنّك للسِّوى تتجملين
وله ترشّين العطور
وتَقلعين
وترتدين
ولمحتُ طوقَ الياسمين
في الأرض مكتوم الأنين
كالجثّة البيضاء
تدفعه جموع الراقصين
ويهمّ فارسك الجميل بأخذه
فتُمانعين
وتُقهقهين
“لاشيء يستدعي انحنائك
ذاك طوق الياسمين ..”