على العنان قصة {الأمل البعــــيد} .
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قصه من كتاب (هكذا هزموا اليأس )
رائعه جدا
لم امل من قرآتها ولن أمل
صدقا من قال “لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس ”
قد تتعجبون عند قراءتكم قصتي وقد تقولون بأنها ضرب من الخيال ولكن لتعلموا أن
كل حرف فيها ينبض بالصدق والحقيقة فقد نسجتها لكم من خيوط معاناتي.. لتعرفوا
فقط أنني ما عانقت اليأس فيها يوما لأنني توكلت على ربي سبحانه وفوضت أمري إليه
فمنحني قوة الإيمان والأمل.. التي جدفت بهما حتى رست في النهاية على ميناء السعادة
والحقيقة، فاقرءوها.. لتزرعوا الأمل في ما بعد في جنبات حياتكم.. ولتطردوا منها كل
طائر يأس قد يعشش فيها.
عشت طفولة بائسة أقل ما يقال عنها بأنها كئيبة مظلمة وسط أسرة فقيرة لا تكاد
تجد ما تسد به رمقها من الجوع.. لم أعرف طعم الحلوى والسكاكر كباقي الأطفال في
طفولتي البائسة تلك ومازلت أذكر كيف أننا كنا ننتظر الأعياد ومناسبات الأفراح لجيراننا
وأهل الحارة بفارغ الصبر والترقب لأننا نتذوق من خلالها اللحوم والفواكه التي نحرم منها
طوال العام.. كانت أسرتي أسرة مفككة لا يكاد أي فرد فيها يشعر بالآخر فلكل منا
عالمه الخاص المغلق عليه هو فقط ولا يستطيع أيا كان أن يدخل إليه لا لأن أبوابه موصدة
بقوة.. بل لأن أيا منا لم يكن ليهتم بدخول عالم الآخر فكل فرد من أسرتي للأسف كان
لديه ما يشغله من أعمال وخصوصيات يخجل قلمي من ذكرها..!!
كان أبي يعمل (مستخدما) في أحد المعارض وراتبه البسيط لا يصل بالأسرة الكبيرة
إلى نهاية الشهر بأمان.. بل كثيرا ما تتوقف بنا سفينة الحياة في منتصف الشهر.. هذا على
الرغم من بؤس عيشنا وشظف حياتنا!!
كان والدي إنسانًا سلبيًا قانعا من الحياة بعشرة أطفال مشردين في الشوارع أحيانًا لا
يعلم عنهم شيئا.. وربما كان لاستخدامه المخدرات في بداية حياته وكثرة دخوله وخروجه
من السجن آثارا سلبية جعلته لا مبالي بكل ما حوله.. كنت أشفق عليه أحيانا وأنا أرى
نبتة الأمل تخبو في نفسه يوما بعد الآخر كان كثيرا الصمت والشرود لا يحرك ساكنا ولو
انهارت الدنيا من حوله.. أو كأنما هو أحسن بأن خيوط حياته قد أفلتت من بين يديه فآثر
أن لا يركض وراءها فأذعن لها بكل انهزامية واستسلام..
أما والدتي واعذروني إن تحدثت عنها بهذه الطريقة المؤلمة.. فالحقيقة أشد إيلامًا، فقد
كانت تتسكع بين بيوت الحارة طوال يومها وكأنها لم تستوعب يوما أنها زوجة وأم…
عليها واجبات تجاه زوجها وأبنائها وكانت دائما تنظر إلى ما في أيدي الآخرين وتحسدهم
على ما أنعم الله به عليهم وتستجديهم وتريق ماء وجهها ليجودوا عليها ببعض الفتات،
فكأن أمي وأبي قد اعتبروا أن هذه الأسرة مصيبة حلت عليهم فهم يخشون مواجهتها أو
حتى التعايش معها..!!
أما إخوتي فحدث ولا حرج فهم يعيشون بين جنبات الشوارع بلا هدف ولا
معنى.. وأغلبيتهم انحرفوا عن جادة الصواب والطريق القويم دون أدنى مساءلة من أبي
وأمي.. حتى إخوتي البنات لم يقمن وزنا للأخلاق ولا للشرف ولا حتى لنظرة المجتمع من
حولهن..!! والكارثة العظمى أن إخوتي بمجرد وصولهم إلى الصف الرابع الابتدائي فإنهم
يتسربون من مدارسهم بلا سبب سوى ضجرهم وعدم قدرتهم على النهوض صباحا
فيقررون هكذا الانقطاع عن المدرسة دون حسيب أو رقيب والاكتفاء بالتقلب داخل
رحم التخلف والانحراف والتشرد.. في ظل شرود أبي وتسكع أمي بين شوارع الحارة.
عشت هذه الطفولة الكئيبة وأنا كارهة لو وضعي ناقمة على أمي وأبي اللذين تجردا
من أشرف وأسمى لقب في الوجود، متشبثة بدراستي بقوة سمكة صغيرة مرتجفة
تسبح ضد التيار الذي لا يرحم، وقد كنت من المتفوقات على الرغم من قسوة الظروف
من حولي وتفكك أسرتي وانحراف أفرادها بلا استثناء.. وسأحدثكم الآن عن اليوم الذي
غير مسار حياتي للأبد وفيه بدأت مأساتي الحقيقة والتي لولا إيماني بالله ورحمته بي لما
تجاوزتها.. فحين حصلت على شهادة الصف الثالث متوسط وأنا الوحيدة من أسرتي التي
وصلت إلى هذا المستوى.. تقدم رجل لخطبتي من أبي وكنت حينها في الخامسة عشرة من
عمري أما هو كان في الستين من عمره مصاب بالضغط المرتفع والسكري ومدمن للخمر
وتاجر للمخدرات.. مما يدر عليه دخلاً مرتفعا وهذا هو السبب الوحيد الذي جعل لعاب
أمي وأبي يسيل ولا يكاد يقاوم الإغراء المادي الذي يتراقص أمامهما بكل بريق ولمعان،
ومن دون تردد وافقا ودون حتى أن يأخذا موافقتي صرخت في وجهيهما.. لا أريده..
أريد أن أكمل دراستي.. زوجوه أختي الكبرى.. ولكن للأسف كان صوتي مجرد صدى
يتردد من حولي دون أن يسمعه أحد سواي وكأنما كنت أحادث الفراغ اللامتناهي أمامي
وليس والداي فقد أصما عقليهما إلا من نداء المال قبضت أسرتي ثمن البيعة الخاسرة وهي
مسرورة على الرغم من علمهم بأنه من مصدر حرام.. وتم زفافي وسط جو كئيب من
التعاسة واللامبالاة.. فتخيلوا أن أمي لم تفكر حتى في توجيه أية نصيحة لي تلك الليلة أو
حتى إلقاء نظرة على زينتي وماكياجي الذي وضعته أنا على وجهي أو حتى أن تتفقد
أغراضي التي أحتاج إليها في بيتي الجديد.. أتعلمون ما أول شيء وضعته في حقيبتي،
وضعت دروسي و ُ كتبي والتي كنت أتعلق بها كما يتعلق الطفل الصغير بثوب والدته خشية
ضياعه منها في دروب الحياة الغامضة. ودخلت داري الجديدة، عفوا أقصد سجني وبمجرد
أن أغلق الباب وراءه بدأ بافتراسي كما يفترس الذئب ضحيته بكل وحشية ودموية
حاولت الهرب منه ولكنه لم يمهلني بل بدأ بتمزيق فستان زفافي ومعه مزق كل معنى جميل
كنت أحاول رسمه لحياتي القادمة.. لقد اغتصبني كما يغتصب المجرم عديم الأخلاق ضحيته
في شوارع الليل المظلمة وبين جنبات الخرائب المتهدمة، وبعد أن انتهى من جريمته تناول
شرابه الكريه واستلقى على فراشه كثور ضخم متبلد الإحساس دون حتى أن يكلمني أو
ينظر إلى وجهي وارتفع صوت شخيره البغيض وهو أشبه بصوت طرق عنيف على أذني..
ولكم أن تتخيلوا فتاة في الخامسة عشر من عمرها في هذا الموقف المروع الذي اغتال
آدميتها ونقاءها أخذت أرتجف بألم وأجفف جراحي النازفة وأهدئ من روعي المتصاعد من
هذا الوحش الآدمي.. الذي يرتدي عباءة الزوج.. خمس سنوات مرت من عمري دفعتها
كفاتورة قاسية للجشع والطمع اللذين أعميا أبصار أهلي، خمس سنوات من عمري دفعت
ثمنها غاليا وذقت فيها كل ألوان العذاب من ضرب بالسياط والنعال – أكرمكم الله –
والحبس وحتى الحرمان من الطعام وكأنني خادمة يتيمة في قضية سيد اشتراها من ماله فهو
يتحكم بها كيف ما يشاء.. كل ذلك لم يقهرني بقدر ما قهرني وجعلني أنزف من الداخل
حرماني من الدراسة ورفضه التام لذهابي إلى المدرسة أو حتى لانتسابي وأدائي للاختبار اية
العام، أصبحت أشبه هيكل عظمي نتيجة الهم والغم الذي أصابني بسبب حرماني من
الدراسة ولكن الله الرزاق الرحيم يشاء أن يهبني أطفالا يشغلونني عن كثرة التفكير بحرماني
من الدراسة التي أعشقها إلى درجة لا يتصورها إنسان، أنجبت ولدين وبنتا خلال خمس
سنوات فقط وأنا في العشرين من عمري لقد عاهدت نفسي أن أجنب أطفالي جميع ما
مررت به في طفولتي من ألم الإهمال وعدم الإحساس بالأبناء.. ولكن أنى لي ذلك وأبوهم
إنسان متجرد من شرف الأبوة فبمجرد أن يشرب الخمر ويصبح ثملا فإنه يقوم بضربي وإياهم
على أتفه الأسباب.. أتدرون أنني في أغلب الليالي الطويلة كنت أحتضنهم وأنام وإياهم ونحن
جالسون خوفا من أن يقوم بقتلنا كما كان يتوعد دائما.. أما حين يكون بحاجة للمخدر ولا
يجده فإنه يقوم بتحطيم الأثاث وتكسير الأواني وطردي مع أطفالي إلى الشارع وكثيرا ما قام
جيراننا الطيبون بإيوائنا رحمة وشفقة بنا ولعلكم تتساءلون عن والداي ودورهما مساعدتي..؟
اسمحوا لي أن أصدمكم بقولي.. أنهما لم يحركا ساكنا تجاه ما يريانه من أحداث مؤلمة تحيط
بي. وكاد اليأس أن يتسلل إلى نفسي من هذه الحياة السوداء التعيسة التي أعيشها ولكن
قوة إيماني بربي كانت تحول بيني وبين هذا الشبح البغيض.. دعوت الله في تلك الليالي
المدلهمة أن يفرج كربي ويزيل عني هذا البلاء الذي تعجز نفسي المرهفة على احتماله!
واستجاب الله لدعائي.. ففي ذات يوم سمعت صراخ الجيران من حولنا وهم ينادون علي (يا أم
فلان.. زوجك.. زوجك) ركضت أنا وأطفالي مسرعين خرجنا من الدار لنرى ما
حدث.. لقد قام زوجي السكير بالعراك مع رجل من زبائنه اختلف وإياه على ثمن قطعة
هيروين فتطاعنا بالسكين فطعنه زوجي طعنات قاتلة فمات على الفور..
لقد شاهدت زوجي المجرم وقد تلطخت ملابسه بالدماء وهو يرتجف بين أيدي رجال
الشرطة، كما يرتجف الفأر المذعور حين يقع في المصيدة، كانت شفتاه تميلان إلى اللون
الأبيض من هول الموقف، وأطرافه بالكاد تحمله، أما عيناه فكانتا زائغتين ينظر إلى الناس
من حوله بذهول أما أنا فلا تسألوني عن مشاعري المضطربة حينها، لا أدري أهي لحظات
سعادة، أم شماتة انتظرتها من زمن طويل، أم هي مشاعر ألم هيجتها ذكرياتي المؤلمة، لم
أشعر إلا وأنا أردد لا شعوريا، الحمد لله.. الحمد لله، تذكرت تلك الليلة الحزينة ليلة زفافي
الأليمة حين وجه طعناته النافذة، واغتصبني بقسوة رجل سكير يحمل بين جنبيه قلبا من
صخر لا رحمة فيه ولا شفقة.. تذكرت جراحي النازفة وثيابي الممزقة ، وارتجافي بين يديه
بخوف، لم أكن أعلم إلى أين أفر؟ ولم يكن لي مهرب تذكرت دموعي الساخنة في تلك
الليلة السوداء، يا إلهي ها هو الزمن يعيد تصويره العجيب إنه اليوم في نفس موقعي
بالأمس، يا لها من دنيا عجيبة. وبعد أسبوع فقط من القبض عليه وقبل حتى أن تبدأ
محاكمته، أصدرت عدالة السماء حكمها فمات بعد ارتفاع الضغط وإصابته بنزيف
دماغي، أتتخيلون البلبل الصغير حين يفتح له باب القفص فجأة فيتردد في الانطلاق ظنا
منه أن ذلك حلم، كنت أنا مثله تمامًا، بصقت على دولاب ملابسه وعلى كؤوس خمره
القذرة وعلى سوطه الذي ألهب جسدي وجسد أطفاله من ضرباته المؤلمة بصقت على كل
شبر في منزلي سار عليه ودنسه برجليه الكريهتين وجاءت أسرتي تعزيني بوفاته وأنا التي لم
أرهم منذ سنتين فكانت أول كلمة قالتها أمي حتى قبل أن تقبلني الله يرحمه.. هل عنده
ورث؟!! ولولا خوفي من الله لطردتها وطردتهم جميعا، ومن تصاريف رب القدر أن زوجي
كان مدينا وحين علمت أسرتي بذلك لم أعد أراهم، فقد خافوا أن أشكل عليهم عبئا
إضافيا أنا وأطفالي، شعرت بالألم الممزوج بالقهر، فيا لها من بيعة خاسرة تلك البيعة التي
أبرمها أهلي مع ذلك الجلاد.. خمس سنوات من عمري ضاعت وحين كان أهلي
يستعدون لجني الأرباح وجدوا أن الأسهم كانت خاسرة.. ففضلوا الهرب بعيدا، جلست
أفكر مليا فأنا الآن أمام مفترق الطرق، فأنا أرملة جميلة في العشرين من عمري لدي ثلاثة
أطفال، وليس لدي مورد رزق.. ماذا أفعل؟؟! أمامي طريقين أسلكهما الأول هو طريق
الكفاح والصبر.. والأمل البعيد، والثاني: طريق الكسب السريع حين أبيع أنوثتي للراغبين
في امرأة جميلة ووحيدة، اخترت الطريق الأول بلا تردد.. فأهم شيء حصلت عليه من
رحلتي المؤلمة أنني أصبحت حرة ليس لهؤلاء عديمي الرحمة والشفقة قيد عليّ فكان أول ما
فعلته أنني بعت آخر قطعة ذهب خبأتها عندي بمبلغ لا بأس به ورحلت عن هذا المنزل
الكريه الذي شهد أسوأ ذكرياتي… وانتقلت أنا وأطفالي إلى مدينة بعيدة وهناك
استأجرت غرفة صغيرة بحمامها، واشتريت موقدا صغيرا وسريرا مستعملا ليضمني أنا
وأطفالي، وبعض الأواني القديمة المستعملة، أعترف أنها كانت غرفة حقيرة حتى في نظر
الفقراء ولكن ما جعلها مثل الحلم بنظري هو أنني وحدي فيها مع أطفالي فأنا التي أحدد
مصيري بعد إرادة الله طبعا فلا أحد بعد اليوم سيرسم لي طريق حياتي البائسة.
بدأت أبحث عن عمل شريف أعيش منه أنا وصغاري ولقد سخر الله لي جيران طيبين
ساعدوني كثيرا فقد كانوا يتصدقون علينا ببعض الطعام والملابس القديمة وأحسنوا إليَّ
فجزاهم الله عني خير الجزاء ووجدت عملاً حكوميا كمستخدمة في إحدى المدارس الثانوية
القريبة من بيتي، ولا أنسى أول راتب قبضته في حياتي، صحيح أنه كان بسيطا ولكن
دموعي انهمرت من عيني لحظة تسلمه بكيت كثيرًا وحمدت الله على رزقه وإعانتي على
لقمة العيش الشريفة، اشتريت لأطفالي ملابس جديدة وألعابًا وطعاما طيبا ولأول مرة منذ
أربعة أشهر أطبخ لحما ودجاجًا لأطفالي، وأشتري لهم بسكويتا وشوكولاته، كنت أرى
السعادة تتراقص في أعينهم وهم يتلذذون بما أحضر لهم خاصة حين هجرنا الخوف من ذلك
المجرم الذي كان يضربنا في كل لحظة وكأننا كلاب شريرة جاءت تتسول على بابه. مرت
سنة كاملة عليّ وأنا في وظيفتي استطعت خلالها أن أكسب احترام مديرتي وتعاطف المعلمات
وحب الطالبات بما منحني الله من تفاني بالعمل وإخلاص، وذات يوم سألت نفسي لم لا
أكمل تعليمي الثانوي خاصة أنني في مدرسة ثانوية وعرضت الأمر على مديرتي فشجعتني
كثيرا وفعلا قدمت أوراق انتسابي وكانت صدفة أن ابني البكر يدرس في الصف الأول
الابتدائي وأنا في الصف الأول الثانوي، اجتهدت كثيرا في دراستي على الرغم من الأحمال
الملقاة على عاتقي كأم وموظفة وطالبة، وفي خلال ثلاث سنوات حصلت على شهادة
الثانوية العامة بنسبة سبع وتسعين بالمائة وكانت هذه النسبة مفاجأة لكل من حولي بكيت
كثيرا وأنا أرى ثمار جهدي بدأت تنضج… انتقلت من عملي كمستخدمة وقدمت على
وظيفة كاتبة في إحدى الدوائر الحكومية براتب جديد بالإضافة إلى تقديم أوراق انتسابي
إلى الجامعة قسم التربية الإسلامية، استأجرت شقة صغيرة مكونة من غرفتين وصالة
ومطبخ مستقل وحمام ولأول مرة يدخل التلفزيون إلى بيتنا بعد أن أخذت سلفه من البنك
أثثت فيها الشقة أثاثا جديدًا صحيح أنه كان بسيطا ولكنه لم يكن مستعملاً وبدأت ارتاح
نوعا ما في حياتي خاصة أن أطفالي جميعهم دخلوا المدارس وأصبحوا من المتفوقين دراسيا
وأخلاقيا، اشتريت لأطفالي ما كانت نفوسهم تهفوا إليه من ألعاب رخيصة وملابس بسيطة
وحاولت قدر الإمكان أن أعوضهم عن حاجتهم إلى العائلة الكبيرة، فكونت صداقات
عميقة مع زميلات وأخوات في الله، كن نعم العون لي فكنا نذهب في نزهات وزيارات
سوية نروح عن أطفالنا والذي كان يثلج صدري ويمنحني الصبر والأمل هو نظرات الحب
التي كنت أراها في عيون أطفالي وتلك القبلات اللذيذة التي كانوا يعطرونني بها بمناسبة أو
بدونها، مرت أربع سنوات عصيبة حصلت فيها على البكالوريوس بتقدير امتياز مع مرتبة
الشرف الأولى ثم استقلت من عملي ككاتبة وتم تعييني معلمة في مدرسة ثانوية كان ابني
الكبير في الثالثة عشرة من عمره حين أصبحت معلمة احتضنني بقوة وهو لا يكاد يغالب
دموعه قائلا (أمي أنا فخور بك أنت أعظم أم في العالم) واحتضنتهم جميعا وظللنا نبكي
بلا شعور لساعات طويلة، ولأول مرة في حياتي أقبض مرتبا ضخمًا، تصدقت بنصفه
كشكر لله على نعمه المتوالية عليّ وبما يسر لي من أسباب الرزق وبنصفه الباقي اشتريت
لأطفالي جميع ما يحتاجون إليه وبدأت فيما بعد أدخر جزءًا كبيرا منه لبناء منزل خاص بنا،
وقدمت على الماجستير وحصلت عليها خلال سنتين فقط بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف،
وبدأت في بناء منزلنا الكبير المكون من طابقين به عشر غرف وصالتين ومطبخ ومستودع
وحديقة كبيرة ومسبح جميل وقدمت على الدكتوراة وكان مشوارها صعبا جدا خاصة أن
أطفالي بدؤوا يكبرون ويتدرجون في فصولهم فكان الإرهاق يكاد يقتلني أحيانا وأنا أشتت
نفسي بين عملي كمعلمة وبين مذاكرتي للدكتوراة وأبحاثي وبين مذاكرة أولادي وبين
الإشراف على البناء والتأثيث والذي كان أثاثًا فخما ورائعا، وحصلت خلالها على درجة
الدكتوراة وبامتياز أيضا مع مرتبة الشرف وتم تعييني كأستاذة في الجامعة، وأنا في السابعة
والثلاثين من عمري، أتعلمون لحظة تسلمي لشهادتي بمن فكرت؟؟ لقد فكرت بأمي، ترى
لو رأتني في هذا المشهد فهل كانت ستبكي من الفرح، أو أنها ستسألني عن العائد المادي
الذي سأجنيه من وراء ذلك؟!
ولكن لا تعتقدوا أني إنسانة عاقة لوالدتي أو أنني لم أحاول صلتها في ما مضى
بالعكس لقد ذهبت إليها أكثر من مرة خلال مشوار حياتي فوجدتها كما هي لم تتغير
تتسكع بين بيوت الجيران وتهفو إلى المال دائما أيا كان مصدره حتى أنها كثيرا لا تسأل
شقيقاتي من أين يأتين بالمال بل أهم من ذلك أن يعطينها شيئا منه.. أما والدي فقد توفي
بعد زوجي بسنة واحدة اقتطعت جزءا من مرتبي شهريا وكنت أرسله لها بانتظام إلى أن
توفاها الله بعد ذلك.. أما إخوتي وأخواني فلم يكن يشرفني التعرف إليهم أو تواجدهم في
حياتي فابتعدت عنهم من أجل أبنائي ابتسمت الحياة لي بعد عبوس طويل فها انأ الآن لي
مركزي الاجتماعي وأعيش في بيت فخم وعندي الخدم والسائقين وأبنائي جميعهم قد
تخرجوا من جامعاتهم العلمية فابني الكبير أصبح طبيبا جراحا والآخر مهندسا معماريا
والصغرى طبيبة أطفال وقد زوجتهم جميعا وأصر ابني الكبير أن يعيش هو وزوجته معي
فملؤوا علي اّلبيت بالحياة وضحكات الأحفاد وها أنا الآن في الخامسة والخمسين من
عمري مازلت أحتفظ بمسحة من جمالي برغم جميع الظروف التي مررت بها…
قصتي هذه أهديها إلى كل يائس ومحبط لعل بها من بصيص الأمل ما يبدد لحظات
اليأس في حياته!!
وصدقوني إذا استسلمت لليأس ولحظاته المريرة لما وصلت إلى هذه الحياة التي أعيشها
الآن بفضل الله سبحانه وتعالى ثم بفضل تمسكي بالأمل رغم كل الخطوب من حولي.
اليأس قاتل حين يشرع له أبوابنا كضيف ثقيل لا يبالي بمشاعر الآخرين.
فيا أيها اليائس إياك أن تفتح له بابك وإن ادلهمت من حولك الصعاب..!!
فصدقوني ومن تجربة خضتها واستطعت النجاح فيها ليس هناك أجمل من التفاؤل
والتشبث بالأمل حتى وإن كان صغيرا.
والأهم هو عدم اليأس من رحمة الله
قصة واقعية عايشت زميلتي أحداثها
وعبرت عنها بأسلوبي