سر حبنا لفصل الخريف
أحب الخريف لصدقه ، للدفء المنبعث من ساعاته ، لحميميته وهو يعرّي الأرض ، ليلبسها رداءً بألوان الشمس والتراب، أعشق الخريف بمزاجيته المتقلّبة ، فتارةً يكون عاصفاً وأخرى يكون رقيقاً يبث الدفء في الأوصال إبان عواصفه القارسة، أعشق الخريف لأنه يرسم الأنا التي أكون عليها في حدته وسكونه ، في لينه وعناده ، في ليله ونهاره ، أهيم في أيامه لأنه يطفئ حرارة صيفٍ أهوج ، أشعل الأرض جفافاً ، وظمئاً، كم أهوى الخريف ، أرسمه كخيلٍ عربيةٍ أصيلة تلتهم الأرض بحوافرها القوية ، ليلتهم الأرض ويخرج من أعماقها لون الأرض البني ، ويتلمس أغصان الأشجار محولاً أوراقها الخضراء إلى أقراطٍ ذهبية ، لتتساقط رويداً رويداً ، تحملها النسماتُ برفقٍ إلى موتها المشتهى ، إلى أعماق الأرض .
أعشق حبات الندى وهي تتشكل على سطح البلور ، لأعلم بأن السماء ستهدينا بعضاً من غيثها ، لتروينا من عطشٍ أنهك قوانا ، كم أعشق رائحة المطر القادمةٍ من بعيد ، تحملها تلك النسمات التي تبدأ بالهبوب بلطفٍ لتشتد أكثر فأكثر ، وكم أعشق تلك السحب السوداء البعيدة المترددة في القدوم ، تحاور نفسها هل حان وقت الاقتراب ، أم مايزال الوقت مبكراً ! أصرخ بتلك السحب :
إقتربي هيا اقتربي ، أغيثيني . فأنا العاشقة لحزنك وانكسارك ، لأتوسل لك بأن تذرفي الدموع غزيرةً ، هيا ابكي بغزارةٍ بللي هذا الجسد المنهك ، بلليهٍ بدموعك أيتها السماء الخريفية ، أوهميه بدفء تلك الدموع ، ليخترق البلل الجسد إلى القلب ينعش النبض فيه ، نبضاً يضخ الدماء إلى هذا الجسد من قطرات الماء الساقطة عليه أيتها السماء ، فاهطلي برقّةٍ ، رأفة بخفقاته التي تعلو وتشتد ترحيباً بحزنك أيتها السماء ، كم تستهويني ألوان سماء الخريف بغموضها وشجنها ، ورائحة ( الميرمية ) المنبعثة من كوب الشاي المعد لبث الدفء في الأطراف ، التي بدأ الخريف يمتص حرارتها ، وكم أعشق الهدوء وترقب لحظة موت الطبيعة تمهيداً لميلاد طبيعةٍ أخرى ، ستولد بعد عدة جولاتٍ غاضبةٍ للسماء لتقليب ثرى الأرض من ضربات قطرات المطر الغاضبة على الأرض ، كم أنتظر لحظة عناق القطرة للتربة ، لتتولد في لحظة التحامهما رائحة الكون والحياة …
وهل بعد تلك اللوحة يبدع فنان في رسم تلك اللحظة ، كما رسمتها الطبيعة لنفسها وبثت الحياة في تلك اللوحة الطبيعية الرائعة ؟ وهل يعقل بأن يأتي يومٌ أكره به الخريف ؟
برغم غموضه ووحشته ، سأبقى أبد الدهر أحبك يا فصلاً تتعرى به الروح كما الأرض .