خطبة الجمعة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
أما بعد:
فإنَّ أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمّد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، من يُطعِ الله ورسوله فقد رشَد، ومن يعصِ الله ورسوله فإنه لا يضرُّ إلا نفسه، ولا يضرُّ الله شيئًا.
أيّها الناس:
حديثنا اليوم عن )الواسطة( أو (المحسوبية) وتعريف الواسطة هي طلب المساعدة في إنجاز شيء من إنسان ذو تأثير ونفوذ لدى من بيده قرار العون والمساعدة على تحقيق المطلوب لإنسان لا يستطيع أن يحقق مطلبه بجهوده الذاتية أو كفاءته الشخصية .
والملاحظ في هذه الأيام انتشار الواسطة في كثير من الأمور، فلا تكاد تصل إلى حق من الحقوق أو أمر تريده إلا بواسطة، فدخول الجامعة يحتاج إلى واسطة، والحصول على وظيفة يحتاج إلى واسطة، ودخول المستشفيات للعلاج يحتاج إلى واسطة، والكثير من الأمور التي لم تكن الواسطة معروفة فيها ، بل إن هناك يقينًا لدى أكثر الناس اليوم أنه لا فائدة من مراجعة أي دائرة كانت حكومية أو أهلية إلا بوجود (الواسطة) حتى تحولت حياتنا إلى ما يشبه الارتهان للواسطة لإنجاز معاملاتنا وقضاء حاجاتنا والوصول إلى غاياتنا .
عباد الله :
إنَّ مِن سمات المجتمع المسلم الواعي الرشيدِ انتشارَ العدل والمساواة وإنحسار الظلم والأنانيّة وحبّ الذات ، وقد راعى الإسلام مبدَأ أحقية وأولوية الكفاءَةِ والامتياز في المجتمعِ المسلم، وقدَّم ذويها على من دونهم تقديرًا لتفوُّقهم وجهدهم الذي بذلوه واعترافًا بأهليّتهم، فقد جاء في الصحيحِ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: “يؤمُّ القوم أقرَؤُهم لكتابِ الله” الحديث رواه مسلم وصحَّ من حديث عبد الله بن زيد –رضي الله عنه- في قصّة مشروعيّة الأذان أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال له: “ألقِه على بلال؛ فإنّه أندى منك صوتًا” وقد كانَ يمتحِن الصحابةَ في القوّةِ والرمي حالَ تجهيز الجيش للغزوِ، فيقدِّم الكفءَ القويَّ، ولذلك ردَّ رافع بن خديج -رضي الله عنه- يومَ بدر لعدم كمال الأهلية
إذًا فالإسلام جعَل للكفاءةِ والأهلية من المكانة والاعتبار ما يكفل به لكلِّ مجتمع واعٍ أن يحيَا حياةَ الاستقرار والتوازُن في الاحتياج والإنتاج؛ ولأجل ذا فإنَّ المجتمعَ الذي يسودُه تقديرُ أصحابِ الكفاءات والاعتبار بالأولويّة للأهلية وذوي الامتياز ليُعَدّ مجتمعًا متكامِلَ الرؤى متحِدَ المضامين قد بنَى على الأسس المرعية التي تأخذ بالحقّ والعدل
لقد أطلت ظاهرة (الوساطة) في تبوء الوظائف العامة بوجهها القبيح منذ سنوات فأحدثت خَللاً وفُتوقًا أخلاَّ بمَوازينِ العَدلِ والمساوَاة في مجتمعنا ، إذ قلَّ الآن أن تجِدَ لاعتبارِ الكفاءةِ والأهليّة محَلاًّ في ميادينِ العمَل والتوظيف وحتى إرساء العطاءآت العامة مما أقعدنا عن التقدم والنموِّ والنّهوضِ للأفضل، وأعاق عَمَليّة البناءِ والتطويرِ وتشجيعِ المواهبِ وشَحذِ الهمَم
هذه الآفة التي يسميها العامة (الواسطة)أو (الوساطة) صَارَ لها في مجتمعنا انتشارٌ متزايدٌ وتأثيرٌ بالِغ في مناحِي الحياةِ العلمية والعمليّة انعكسَ على الفردِ والمجتمع بصورة واضحة لا تحتاج إلى دليل .
والواسطة -عبادَ الله- ظاهرة بالغة الخطورة؛ إذأنها تؤدِّي بالمجتمع إلى تفشِّي روح الانتهازية ليصبحَ التعامل مع الفردِ بمقدارِ ما يحمِله من صِلة ومصلحةٍ شخصيّة، لا بما يحمله من كفاءةٍ وقُدرة وهذا للأسف الشديد مولِّدٌ للغَبن وحاجبٌ للابتكارِ والإبداع والتطوّر الذي ينعَكس على المصلحةِ العامّة للمجتمع .
عباد الله :
لقد وصل بنا الحال من فرط إنتشار (الواسطة) إلى أن يشعرَ الفرد أنه لا يمكن له أن ينجز عملاً من الأعمال إلا بها وإنَّ مما يزيد الطين بِلّة أن يراها بعض الناس (ببسَب تفشِّيها) مبرِّرًا للّجوء إليها وممارستها في كلِّ نواحي الحياة وهم يتناسون أنَّ الظّروفَ الاجتماعيّةَ ليست مبرِّرًا للّجوء إلى الواسطة التي تُؤدِّي بصاحبها إلى هضمِ حقوق الغير وحرمانهم ممّا هم أهلٌ له .
إنَّ مما لا شكَّ فيه أن تفشيَ مثلِ هذه الآفة الخطيرة في مجتمعٍنا يجعلنا غير قادرين على النهوض ويجلبَ لنا غائلةَ الفاقةِ والتخلّف، ويذكيَ في فينا شررَ الحسد والتباغض والتغابن، إذ تصبح المعايير هي السير علَى مَبدأ المصالح الشخصيّة لا على مبدأ الصالح العام للمجتمع والقبول للأصلح والأكفأ ،
أعلم أيها المسلم أن أي (واسطة) كان فيها تعدٍّ أو حِرمانٌ لمن هو أحقّ منك بذلك فهي محرَّمة لأنها بغيرِ حَقّ، إِضافةً إلى أن فيهَا ظُلمًا لغيرك ممن هو أولى وأكفأ ِمنك ، واعتداءً على المجتَمع بحرمانه ممن يؤدي وينجِز أعمالهم على أحسن وجه، وطمسًا لمعالم التفوُّق والإنجاز، وإهدارًا للمواهِبِ والقدرات التي ينشدُها كلُّ مجتمع سويّ، والله -جلّ وعلا- يقول: (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا) [النساء: 85].
اللهم لاتمنع بذنوبنا فضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين ، اللهم لاتسلط علينا بذنوبنا من لايخافك فينا ولا يرحمنا، اللهم أنت الغني ونحن الفقراْ اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ،اللهم يا حي ياقيوم يا ذو الجلال والإكرام أهدنا في من هديت وعافينا في من عافيت وأقضي عنا برحمتك شر ماقضيت إنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، آمنا بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي ارسلت فأغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما اسررنا وما أعلنا وما أنت به أعلم انت المقدم وانت المؤخر وانت على كل شيئ قدير ،أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه الغفار الرحيم ، وأقم الصلاة .