الرثاء
الرثاء
ارتبط المعنى اللغوي للرثاء بالميت والبكاء، وهو مصدر للفعل (رثى) فنقول:(رثيت الميت رثياً ورِثاءً ومرثاةً ومرثية) (1)، ويدل الفعل (رثى) في اللغة على التوجّع والإشفاق (2).
ارتبط الرثاء كغيره من الأغراض الأخرى بالقصيدة الشعرية العربية، وفي ذلك يقول ابن فارس: (الراء والثاء والحرف المعتل أُصَيْلٌ على رِقّة وإشفاق. يقال رثَيْتُ لفُلان: رقَقتُ. ومن الباب قولُهم رَثَى الميِّت بشعرٍ. ومن العرب من يقول: رَثَأْت. وليس بالأصل). (3) وهو من أروع فنون الشّعر، وأرقاها، وأكثرها قرباً إلى المُتلقّي.
الرثاء في الشعر العربي
عُرف الرثاء منذ أقدم الشعر الجاهلي حتى الشعر الحديث، مُخلّفاً بذلك ثروة شعرية عظيمة على مرّ العصور التاريخية، وقد كان في نشوء هذا اللون الشعري مشاركات عديدة تنوّعت بين ندب الموتى، وتأبينهم. ومن الطبيعي أن تتفوّق النساء في هذا اللون الشعري لما لهنّ من عاطفة أقوى، وقدرة أجرأ من الرجال في تعبيرهم عن آرائهم؛ فقد قمن بحلق شعورهن، ولطم خدودهن، والإقامة على القبور مدّة طويلة من الزمن.
ومن يتنقّل بين طيّات الشعر يجد صوراً راقيةً من الرثاء فيها تحمل عميق المشاعر من الحزن والألم، واللوعة، والوحدة أحياناً، فقد بكى الشعراء أصدقاءهم، وأفراد عائلاتهم، ورثوا أنفسهم، والملوك والأمراء، والعلماء، ليمتدّ الرثاء ويصل إلى المدن الضائعة، والذي ظهر هذا النوع خاصّةً في فترة سقوط الأندلس. (4)
أنواع الرثاء
يُقسم شعر الرثاء إلى ثلاثة أنواع رئيسة، كالآتي:
النّدب
وهو بكاء الميت بالألفاظ الحزينة التي تذيب القلوب والعيون، يولول فيها الشاعر وينتحب ويسكب الدموع حزناً على ما فقد. وقد يتحوّل هذا النواح إلى مراسم ومآتم تدور مع الأعوم بذكرى سنويّة يقوم فيها الشاعر بإحياء خصال موتاه الذين فقدهم، فيبكيهم من جديد، ويندبهم، ويسكب لجلهم الدموع الكثيرة.
ضمّ النّدب أنواعاً متعددة، فندب الشاعر أهله وأقاربه، ونفسه، والرسول عليه السلام، والدول، والبلدان الضائعة. ومن شعراء الندب نذكر الخنساء في رثاء أخيها صخر، ومُتمّم بن نويرة، وأبو تمام، ومالك بن الرَّيب، وأبو نواس، وأبو البقاء الرُّندي، وشمس الدين الكوفي. (5)
التأبين
اشتمل معنى التأبين في بداية ظهوره كمصطلح بأنّه الثناء على الشّخص حيّاً أو ميّتاً، ثم اقتصر في معناه على الميت، حيث كان من المتعارف عليه في الجاهلية الوقوف على قبر الميت وذكر خصاله الجيّدة وأخلاقه الحميدة. ولم يقتصر التأبين على الرجال من الشعراء، بل قالت النساء في هذا الموضوع كما الرجال.
وفي دراسة هذا النوع من الرثاء نشعر بأن الغرض من التأبين هو تصوير مدى الخسارة التي لحقت بعائلة الفقيد بعد خسارته، ويظهر هذا الأمر واضحاً في رثاء الخنساء لأخيها صخر.
تعدّدت أسباب التأبين وبقي الهدف واحداً، فنظم الشعراء قصائد تأبين الخلفاء والوزراء، وتأبين الأشراف والقادة، وتأبين العلماء والأدباء. ومن أشهر الشعراء من نظموا الشعر في التأبين حسان بن ثابت، وأبو عامر بن شُهيد، والحسين بن مطير الأسدي، وأحمد شوقي، وغيرهم. (6)
العزاء
العزاء لغة يعني الصبر، لكن في الشعر اقتصر معناه على الصبر في كوارث الموت، وأن يرضى الفاقد بالقضاء والقدر. وقد بدأت جذور هذا النوع من الرثاء منذ العصر الجاهلي، حيث كان الشاعر يحزن على ما فقده، ويبكي على خسارته، ويُعبّر عن مشاعره بشعره المليء بمشاعر اللوعة والأسى.
نظم الشعراء جميل أبياتهم في عزاء الأهل من الآباء والأبناء، إلا أنّ العزاء في البنات كان شبه معدوم، وارتبط العزاء بالتّهنئة، كما ارتبط بالحديث عن الحياة والموت والخلود.
أشهر من نظم في هذا النوع من الرثاء هو المتنبي، وأبو العتاهية، وحافظ إبراهيم، والبحتري، وكشاجم، وغيرهم الكثير. (7)
شعر في الرثاء
من جميل قصائد شعر الرئاء العربي، نذكر منها ما يأتي:
لا تعذليه
ابن زريق البغدادي
لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ
قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ
جاوَزتِ فِي نصحه حَداً أَضَرَّبِهِ
مِن حَيثَ قَدرتِ أَنَّ النصح يَنفَعُهُ
فَاستَعمِلِي الرِّفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلاً
مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ
قَد كانَ مُضطَلَعاً بِالخَطبِ يَحمِلُهُ
فَضُيَّقَت بِخُطُوبِ الدهرِ أَضلُعُهُ
يَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَهُ
مِنَ النَوى كُلَّ يَومٍ ما يُروعُهُ
ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ
رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ
كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ
مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ
إِذا الزَمانَ أَراهُ في الرَحِيلِ غِنىً
وَلَو إِلى السَندّ أَضحى وَهُوَ يُزمَعُهُ
تأبى المطامعُ إلا أن تُجَشّمه
للرزق كداً وكم ممن يودعُهُ
وَما مُجاهَدَةُ الإِنسانِ تَوصِلُهُ
رزقَاً وَلادَعَةُ الإِنسانِ تَقطَعُهُ
قَد وَزَّع اللَهُ بَينَ الخَلقِ رزقَهُمُ
لَم يَخلُق اللَهُ مِن خَلقٍ يُضَيِّعُهُ
لَكِنَّهُم كُلِّفُوا حِرصاً فلَستَ تَرى
مُستَرزِقاً وَسِوى الغاياتِ تُقنُعُهُ
وَالحِرصُ في الرِزقِ وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت
بَغِيُ أَلّا إِنَّ بَغيَ المَرءِ يَصرَعُهُ
وَالدهرُ يُعطِي الفَتى مِن حَيثُ يَمنَعُه
إِرثاً وَيَمنَعُهُ مِن حَيثِ يُطمِعُهُ
اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً
بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي
صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً
وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
لا أَكُذبُ اللَهَ ثوبُ الصَبرِ مُنخَرقٌ
عَنّي بِفُرقَتِهِ لَكِن أَرَقِّعُهُ
إِنّي أَوَسِّعُ عُذري فِي جَنايَتِهِ
بِالبينِ عِنهُ وَجُرمي لا يُوَسِّعُهُ
رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ
وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ
وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا
شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ
اِعتَضتُ مِن وَجهِ خِلّي بَعدَ فُرقَتِهِ
كَأساً أَجَرَّعُ مِنها ما أَجَرَّعُهُ
كَم قائِلٍ لِي ذُقتُ البَينَ قُلتُ لَهُ
الذَنبُ وَاللَهِ ذَنبي لَستُ أَدفَعُهُ