الخنساء ترثي صخر
الخنساء
اسمها تماضر بنت عمرو السّلمية (575م – 24 هـ / 645م)، صحابيّة وشاعرة مُخضرمة من أهل نجد، أدركت الجاهلية والإسلام وأسلمت، اشتهرت برثائها لأخويها صخر ومعاوية اللذين قتلُا في الجاهلية، لُقّبت بالخنساء بسبب ارتفاع أرنبتي أنفها. (1)
كشف التّاريخ لنا جانب من حياة الخنساء، ونرى على ضوئها علاقتها بأخويها؛ فلا تكاد تنتهي حادثة حتّى تبدأ حادثة أخرى، وكأنّما استعان التّاريح بتلك الأحداث في حياتها للرّصد والتّدوين، وليس بعيداً عنّا موقف صخر منها حين حاول معاوية أن يُكرهها على الزّواج من صديقه دُريد، فلجأت إليه ليكون لها عوناً، وتحقّق به ما رغبت. وليس بعيداً عن ذلك الموقف أيضاً موقفه منها حين أوقعها زوجها عبد العُزّى في ورطة مالية، فلم تجد غيره ملجأً تسعى إليه، وكان كريماً معها بكل ما تحمل تلك الكلمة من معانٍ؛ فقد شطر ماله نصفين وخيّرها بين أحدهما، حتّى ملّت زوجته واعترضت فقالت: (أما كفاك أن تقسم مالك حتّى تخيرها؟) فقال قاطعاً عليها كلّ اعتراض: (والله لا أمنحها شرارها وهي حصان قد كفتني عارها، ولو هلكت مزّقت خمارها واتّخذت من شعرها صدارها).
كان يوماً من أيّام عكاظ، تمنّت الخنساء لو توقف الزّمن عنده، أو اجتازة من غير أنّ يمرّ به، فما في حياتها أشأم من ذلك اليوم، إذا وقعت عينا معاوية بن عمرو على أسماء المريّة، فأعجبه جمالها ودعادها لنفسه، فامتنعت عليه قائلة: أما علمت أنّي عند سيد العرب (هاشم بن حرملة الغطفاني؟) قال وقد أثارته بردها: أما والله لا قار عنه عنك. فهزّت كتفيها قائلة في تحدٍّ: (شأنك وشأنه) ومضت إلى هاشم، فحدّثته بما كان، فانطلق مُغضباً حتّى أتى معاوية يسأله عن الخبر، فقال معاوية: لوددت والله أنّي قد سمعت بظعائن ندبنك، وبعدها انتهى الموسم، وصدى الحوار مازال يرنّ في أُذن معاوية، فتهيأ لغزو بني مُرّة قوم هاشم، ونهاه صخر أخوه، لكن دون جدوى.
انطلق في فرسان من بني سليم، حتّى إذا دنا من ديار بني مُرّة دومت عليه طير، وسنح طبي، فتطير منهما أصحابه، ومازالوا به حتّى رجع. وبلغ هاشم ذلك فقال: ما منعه من الإقدام إلّا الجُبن! فاستثارت الكلمة معاوية لما بلغته فخرج في العام التّالي مُصِرّاً على الغزو، لكن أصحابه تطيّروا من ظبي سانح، فرجعوا، وتخلّف تسعة عشر فارساً منهم: عبد العُزّى الواحي السّلمي. وورد معاوية وأصحابه ماءً، فعرفتهم امرأة من جُهينة – أحلاف بني سهم بن مُرّة – فانسلّت حتّى أتت هاشم بن حرملة فاخبرته أنّ معاوية في تسعة عشر رجلاً من صَحبة غير بعيد.
خرج هاشم مع أخيه دريد وجمع من قومه، وأصابوا من معاوية مقتلاً، وشدَّ فرسان بني سليم على عدوّهم، فقتل مالك بن الحارث معاوية، وعادوا إلى صخر وهم يظنّون أنهم عوّضوه بما أدركوا من ثأر عاجل، ولكن صخر لم يرضَ، وإنّما انطلق ليأتي بني مُرّة يسألهم: من قتل معاوية؟ فسكتوا طويلاً، ثم قال هاشم: اعلم يا أبا حسّان أنّه إذا أصبتني أو أصبت دريداً أخي فقد أصبت ثأرك، قال صخر: فهل كفّنتموه؟ أجابوا: نعم، في بُردين، قال: فأروني قبره. فمضوا به حتّى إذا رأى القبر جزع، غير أنّه ما لبث أن تمالك نفسه، وقال: (كأنّكم قد أنكرتم ما رأيتم من جزعي، فوالله مابِتُّ منذ عقلت إلا باتراً أو مبترواً، طالباً أو مطلوباً، حتّى قُتِل معاوية، فما ذقت طعم نوم بعده).
وسأل عن الشّماء فرس معاوية، فجاؤه بها، ثم انصرف وقد توعّدهم أن يأتيهم في العام المقبل، وأنجز صخر وعيده؛ غزاهم على الشّماء فنال منهم، وقتل عدداً فيهم (دريد). ولم تكن بنو غطفان بالتي تترك صخراً هكذا، فخرجوا في إثره يطلبونه، ووقف دونه ابن اخته العباس بن مرداس، حتّى فات طالبيه، وعاد صخر إلى ديار بني سليم (2)، وهو يقول مُجيباً من طلب منه هجوهم:
تقول ألا تهجو فوارس هاشم
ومالي إذ أهجوهم ثمّ ماليا!
أبى الشّتم أنّي قد أصابوا كريمتي
وأن ليس إهداء الخنا من شماليا
إذا ما امرؤ أهدى لميت تحيّة
فحيّاك ربّ النّاس عنّي معاويا
وهون وجدي أنّني لم أقل له
كذبت، ولم أبخل عليه بماليا
الخنساء وأخواها
كثير من الدّارسين – وقد التقوا مع مراثيها في صخر – أخذوا عليها قلّة شعرها في رثاء معاوية. والحقيقة أنّ شعرها في معاوية ليس قليلاً في حدّ ذاته، ولكنّه قليلٌ إذا قيس بشعرها في صخر، فهل كان ذلك بسبب الصّدمة المفاجئة، والتي تنضمّ إلى صدماتها السّابقات، فتلجم لسانها وتُجمّد عَبَراتها؟ أم هو الخوف على أخيها صخر من أن تهيّجه أشعارها، فيندفع – وهو الذي لا يبخل في سبيلها- إلى حتفه، وعندئذ تفقد الإخوة، مثلما فقدت الزّوح والأب؟
لو رجعنا إلى عادات العرب وأخلاقهم في الرّثاء لبدا لنا الأمر في معاوية طبيعيّاً لا شذوذ فيه، ولا حاجة تستدعي تلك الافتراضات أو بعضها، فقد كان من اخلاق العرب أن يأنفوا من بكاء من مات في المعركة؛ لأنّهم يعتبرون ندبهم وبكاءهم هجاءً أو في حكم الهجاء، فهم ما خرجوا إلّا ليُقتَلوا، ولذا يجيء رثاؤهم – والحالة هذه – تأبيناً يذكرون فيه فضائل المقتول، ومركزه في قبيلته، ولذا عاب بعضهم عليها في مراثي معاوية ذلك النّهج – وما تنبّهوا إلى الخلق الملتزم- فقالوا: إنّ مراثيها فيه خلت من البكاء، ومنه قولها:(3)
ألا لا أرى في النَّاسِ مثلَ معاويهْ
إذا طَرَقَتْ إحْدَى اللّيالي بِداهِيَهْ
بداهِيَة ٍ يَصْغَى الكِلابُ حَسيسَها
وتخرُجُ منْ سِرّ النّجيّ عَلانِيَهْ
ألا لا أرى كالفارسِ الوردِ فارساً
إذا ما عَلَتْهُ جُرْأة ٌ وعَلانِيَهْ
وكانَ لِزازَ الحَرْبِ عندَ شُبوبِها
إذا شمَّرتْ عنْ ساقها وهي ذاكيهْ
وقوَّادُ خيلٍ نحو أُخرى كانَّها
سَعالٍ وعِقْبانٌ عَلَيْها زَبانِيَهْ
بُلينا وما تبلى تعارٌ وما ترى
على حدثِ الايَّامِ إلاَّ كماهيهْ
فأقسَمْتُ لا يَنفَكّ دمعي وعَوْلَتي
عليكَ بحزنٍ ما دعا اللهَ داعيهْ
بلينا وما تبلى تعار وما ترى
على حدث الأيام إلّا كما هيه
وأيّاً كان الأمر فلن يقبل عاقل مرور تلك الحادثة على الخنساء دون أن تتناوشها الأحزان، فقد استطاعت أن تكبت أحزانها وتسكت خوفاً على صخر، أو أجبرتها أخلاق قومها على السّكوت، فما كان صخر الحليم الجواد العطوف ليسكت، وما كان ليرضيه أن يثأر لمعاوية من (دريد) صديقه بينما هو على قيد الحياة، ولم يقتنع صخر بهذا الثأر المزدوج لأخيه، فتابع غاراته على مرة، حتّى أُصيب بجرح قتال على يدر رجل من فقعس وهي بطن من أسد كانت مُتحالفة مع بني مُرّة، وكان جرحه من طعنة طَعَنَهُ بها ثور بن ربيعة الأسدي فمرض منها حولاً، وأصبحت حياته مُملّة، حتّى أنّ امرأته سألت عن حاله، فقالت: بشرٌ حال، لا حيّ فيرجى، ولا ميت فيُنعى، ولقد لقينا منها الأمرين. وتجيب الأم: ” بأحسن حال، ما كان منذ اشتكى خيراً منه اليوم، ولا نزال بخير ما رأينا سواده فينا، فقال صخر:
أرى أمَّ صخرٍ ما تجفُّ دموعُها
وملَّتْ سُليمى مَضْجعي ومكاني
فأّيُّ امرئٍ ساوى بأمٍ حليلةً
فلا عاشَ إِلا في شقاً وهوانِ
فلمّا طال عليه البلاء قالوا له: لو قطعت تلك القطعة لوجدناه قد تبرّأ، وكانت قطعة قماش في جوف الجرح، فقال: شأنكم وهي! فاشفق عليه بعضهم، وقال: الموت أهون عليّ ممّا أنا فيه، فاحموا له شفرة، ثم قطعوها فبَئِس من نفسه. وجاءت تماضر- وفي يدها قلبها- تسأل: كيف كان؟ أَصَبَر؟ فما كانت لتستطيع أن ترى ذلك المشهد، وسمع صخر البائس سؤال تماضر الوالهة فأجابها يُطمئِنها وهو يعلم ألا شيء يُطمئن: (4)
أجارتنا إنّ الخطـوب تنوب
على النّاس، كل المُخطئين تصيب
فإن تسأليني هل صبرت فإنّني
صبور على ريب الزّمان صليب
كأنّي وقد أدنوا إليّ شفارهم
من الصّفحتين ركوب
جارتنا لست الغداة بظاعن
ولكن مقيم ما أقام عسيب
ومكث صخر في مرضه بعد أن لاقى منه الأمرّين، وتجرّعت أمّه وأخته الآلام في كل لحظة مدّة عام أو يزيد، ومات في يوم كلاب سنة 615 م، ومن قبل مات معاوية في يوم حوزة الأول 612م، ومن قبلهما قابلت تماضر الموت في أسرتها يوم اقتلع أباها عمرو بن الشّريد، ومرداس زوجها الكريم، وما كانت الأنثى لتستسيغ الصّمود أمام ذلك التّيار الجارف، مهما تشبّثت بالجمود، ومهما تعقلّت بصلابة الرّأي، ومهما لجأت إلى العزّة والأَنَفة والعقل .
انهارت الخنساء، بعد أن تمالكت نفسها، وكانت موشكة على الانهيار إثر مقتل معاوية لولا وجود صخر، ومنعتها أخلاق قومها، ولكنّها لم تجد سنداً، ولم تجد مانعاً، وما استطاعت أن تتمالك نفسها بعد موت صخر، فقد مات عزّها ومؤنسها وحاميها، ولذا وجدت به أعظم الوجد، وولهت أشدّ الوَلَه، وأقامت على قبره زماناً تبكيه وتندبه وترثيه. وكما كان صخر في حياتها ملجأ الخنساء، يزيل عنها شكايتها، ويمسح عنها آلامها، كان بعد موتها ملجأً لها كذلك، خفّف عنها ما كبتت في نفسها من أحزان، وما ابتلعت من مُنغّصات طالما أقلقتها وقضّت مضجعها، فلما مات صخر انفجرت باكية من غير مسلك، فهو أسىً مُجمّع، وشجىً أثمر مع الأحداث.
الخنساء والرّثاء
في يوم من الأيام طلب من الخنساء أن تصف أخويها معاوية وصخر، فقالت: إن صخرًا كان الزّمان الأغبر، وذعاف الخميس الأحمر، وكان معاوية القائل الفاعل. فقيل لها: أيّ منهما كان أسنى وأفخر؟ فأجابتهم: بأن صخر حرّ الشتاء، ومعاوية برد الهواء. قيل: أيهما أوجع وأفجع؟ فقالت: أمّا صخر فجمر الكبد، وأما معاوية فسقام الجسد.
ولذا قيل: كان موت صخر بن عمرو بن الشّريد تاريخ ميلاد شاعرة العرب، نظراً لكثرة ما قالت فيه. والواقع أنّه كان تنفسياً لذلك الحزن المكبوت، ولذا كانت تسوم هودحها في الموسم، وتعاظم العرب بمصيبتها بأبيها وأخويها، وتقول: أنا أعظم العرب مصيبةً، فيقرّ لها النّاس في ذلك وليس هذا جديد، فقد سبقوا أن أقرّوا لأبيها حين فاخر بابنيه، ثمّ لمّا كانت وقعة بدر، وقت عتبة وشيبة أبناء ربيعة، والوليد بن عتبة، أقبلت هند بنت عتبة ترثيهم، وبلغها تسويم الخنساء ودجّها في الموسم، ومعاظمتها العرب بمصيبتها بأبيها وأخويها، فقالت هند: بل أنا أعظم العرب مُصيبة، فامرت بهودجها فسوم براية أيضا، وشهدت الموسم بعكاظ، وكانت عكاظ سوق تتجمّع فيه العرب.