التعليمي

الاسلوب العلمي في كتابة البحث

الاسلوب العلمي…وخطواته المنهجية:
يتخطى الهدف الرئيسي لاي بحث علمي مجرد وصف المشكلة أو الظاهرة موضوع البحث الذي فهمها وتفسيرها،وذلك بالتعرف على مكانها من الاطار الكلي للعلاقات المنظمة التي تنتمي إليها،وصياغة التعميمات التي تفسر الظواهر المختلفة،هي من أهم أهداف العلم، وخاصة تلك التي تصل إلى درجة من الشمول ترفعها إلى مرتبة القوانين العلمية والنظريات.
إن تفسير الظواهر المختلفة تزداد قيمته العلمية إذا ساعد الإنسان على التنبؤ،ولا يقصد بالتنبؤ هنا التخمين الغيبي أو معرفة المستقبل،ولكن يقصد به القدرة على توقع ما قد يحدث إذا سارت الأمور سيرا معينا،وهنا يتضمن التوقع معنى الاحتمال القوي.
كما أن أقصى أهداف العلم والبحث العلمي هو امكانية”الضبط”وهو ليس ممكنا في جميع الحالات،فمثلا في دراسة ظاهرة الخسوف يتطلب الأمر وصف الظاهرة،ومعرفة العوامل المؤدية إليها وتفسيرها،وهذا يمكن من التنبؤ باحتمال وقوع الخسوف،إذا توصلنا إلى معرفة علمية دقيقة له،ولكن لا يمكن ضبطه أو التحكم فيه،لأن عملية الضبط في مثل هذا المجال تتطلب التحكم في المدارات الفلكية،وهذا يخرج عن نطاق قدرة أي عالم،مهما بلغ من العلم والمعرفة أو الدقة في البحث،ولكن في المقابل هناك بعض الظواهر التي يمكن ضبطها والتحكم فيها بدرجة معقولة،ومثال ذلك،القدرة على محاربة بعض الظواهر الاجتماعية،مثل جنوح الأحداث أو السرقة أو التغلب على الاضطرابات الاجتماعية التي تضعف البناء الاجتماعي.
وتعتمد جميع العلوم في تحقيق الأهداف الثلاثة،المشار إليها سابقا(التفسير التنبؤ،الضبط)على الأسلوب العلمي،وذلك لأنه يتميز بالدقة والموضوعية واختبار الحقائق اختبارا يزيل عنها كل شك مقبول،مع العلم أن الحقائق العلمية ليست ثابتة،بل هي حقائق بلغت درجة عالية من الصدق.
و في هدا المجال، لابد ان تشير الى قضية منهجية يختلف فيها الباحث في الجوانب النظرية عن الباحث التطبيقي (التجريبي)،حيث ان الاول لا يقتنع بنتائجه حتى يزول عنها كل شك مقبول،وتصل درجة احتمال الصدق فيها إلى أقصى درجة،أما الثاني فيكتفي بأقصى درجات الاحتمال،فإذا وازن بين نتائجه يأخذ أكثرها احتمالا للصدق،بمعنى أنه إذا بحث الاثنان في ظاهرة معينة،وكانت درجة احتمال الخطأ فيها واحد من عشرة(0,1 )،قبلها الباحث التطبيقي،في حين لا يقبلها الباحث النظري إلا إذا انخفضت درجة احتمال الخطأ إلى واحد في المئة(1%).
ولا يغيب عن الذهن، أن الأسلوب العلمي يعتمد بالأساس على الاستقراء الذي يختلف عن الاستنباط والقياس المنطقي،وليس ذلك يعني أن الأسلوب العلمي يغفل أهمية القياس المنطقي،ولكنه حين يصل إلى قوانين عامة يستعمل الاستنباط والقياس في تطبيقها على الجزئيات للتثبت من صحتها(أي أن الباحث النظري يبدأ بالجزئيات ليستمد منها القوانين،في حين أن التطبيقي،يبدأ بقضايا عامة ليتوصل منها إلى الحقائق الجزئية)أي يستعمل التفسير التطبيقي الذي يتمثل في تحقيق(أي نفسير)ظاهرة خاصة من نظرية أو قانون أو ظاهرة عامة،كما يستخدم الطريقة الاستنتاجية التي تتمثل في استخلاص قانون أو نظرية أو ظاهرة عامة من مجموعة ظواهر خاصة.
ومهما يكن،فإن الأسلوب العلمي يتضمن عمليتين مترابطتين هما:الملاحظة،والوصف،فإذا كان العلم يرمي إلى التعبير عن العلاقات القائمة بين الظواهر المختلفة،فهذا التعبير في أساسه وصفي،وإذا كان هذا التعبير يمثل الوقائع المرتبطة بالظاهرة،فلا بد أن يعتمد على الملاحظة،ويختلف الوصف العلمي عن الوصف العادي،في أنه لا يعتمد على البلاغة اللغوية، وإنما هو بالاساس وصف كمي،ذلك أن الباحث عندما يقيس النواحي المختلفة في ظاهرة أو أكثر،فإن هذا القياس ليس إلا وصفا كميا،يقوم على الوسائل الإحصائية في اختزال مجموعة كبيرة من البيانات إلى مجموعة بسيطة من الأرقام والمصطلحات الإحصائية.
أما الملاحظة العلمية،فهي الملاحظة التي تستعين بالمقاييس المختلفة،وتقوم على أساس ترتيب الظروف ترتيبا مقصودا ومعينا،بحيث يمكن ملاحظتها بطريقة موضوعية،والملاحظة تتميز بالتكرار،وللتكرار أهمية كبيرة من حيث الدقة العلمية،فهو يساعد على تحديد العناصر الأساسية في الموقف المطلوب دراسته،وتحرك العناصر التي تكون وليدة الصدفة،كما أن التكرار يظل ضروريا للتأكد من صحة الملاحظة،فقد يخطئ الباحث نتيجة الصدفة أو لتدخل العوامل الذاتية،مثل الأخطاء التي تنجم عن الاختلاف في دقة الحواس والصفات الذاتية للباحث،كالمثابرة وقوة الملاحظة.
التمييز بين مصطلحي
الأسلوب العلمي..ومنهج البحث:
يشير مصطلح الأسلوب العلمي إلى ذلك الإطار الفكري الذي يعمل بداخله عقل الباحث،في حين أن كلمة”منهج البحث” تعني الخطوات التطبيقية لذلك الإطار الفكري،ولا يعني هذا الاختلاف ماهية هذين الاصطلاحين،أي تعارض بينهما،فمن الناحية اللغوية يتقارب كثيرا معنى كل من أسلوب ومنهج،ولكن يقصد بهذا التمييز التوضيح والتفسير،ففي أي دراسة علمية تتخذ العمليات العقلية في ذهن الباحث ترتيبا وتنظيما متكاملا يوجه خطواته التطبيقية،ولذلك يفضل أن يستقل كل مصطلح بجانب من الجانبين،بحيث تستعمل كلمة “أسلوب”لتشير إلى الجانب التطبيقي لخطوات البحث،ولتوضيح ذلك أكثر،يعتمد التمثيل في أن نتصور وجود مشكلة ما تواجه شخصين،الأول يتخبط ويحاول ويخطئ حتى يصل إلى حل ما لهذه المشكلة قد يكون صوابا أو خطأ،ولكنه في كلتا الحالتين لا يعتير محققا علميا،لأنه لم يسير في حلها تبعا لتنظيم ذهني يمكنه من التحقق من نتائجه،أما الثاني،فيعالج المشكلة بأسلوب علمي أي أنه سار في حلها بخطوات فكرية معينة يطلق عليها العلماء”خطوات التفكير العلمي”وهذا ما يميز الباحث العلمي من الشخص العادي-فأسلوب التفكير العلمي هو الذي يميز الباحث الأصيل ويمكنه من تمحيص نتائج بحثه والتحقق من صحتها.
أما بخصوص خطوات الأسلوب العلمي في التفكير،فهي تكاد وتكون هي نفسها خطوات أي منهج بحثي،مع وجود بعض التفاصيل التي تختلف باختلاف مناهج البحث،إلا أن الأسلوب الفكري هو الذي ينظم أي منهج بحثي.

خطوات الأسلوب العلمي في التفكير:
تتمثل خطوات الأسلوب العلمي في الشعور بمشكلة أو تساؤل يحير الباحث،فيضع لها حلولا محتملة أو إجابات محتملة،تتمثل في”الفروض”ثم تأتي بعد ذلك الخطوة الثالثة،وهي اختبار صحة الفروض والوصول إلى نتيجة معينة،ومن الطبيعي أن يتخلل هذه الخطوات الرئيسية عدة خطوات تنفيذية مثل،تحديد المشكلة المراد دراستها،وجمع البيانات التي تساعد في اختيار الفروض المناسبة،وكذلك البيانات التي تستخدم في اختبار الفروض،والوصول إلى تعميمات واستخدام هذه التعميمات تطبيقيا،وبذلك يسير المنهج العلمي،على شكل خطوات (مراحل)لكي تزداد عملياته وضوحا،إلا أن هذه الخطوات لا تسير دائما بنفس التتابع،كما أنها ليست بالضرورة مراحل فكرية منفصلة،فقد يحدث كثير من التداخل بينهما،وقد يتردد باحث بين هذه الخطوات عدة،كذلك قد تتطلب بعض المراحل جهدا ضئيلا،بينما يستغرق البعض الآخر وقتا أطول،وهكذا يقوم استخدام هذه الخطوات على أساس من المرونة الوظيفية.
ولا يغيب عن البال،أن مناهج البحث تختلف من حيث طريقتها في اختبار صحة الفروض، ويعتمد ذلك على طبيعة وميدان المشكلة موضوع البحث،فقد يصلح (مثلاً)المنهج التجريبي في دراسة مشكلة لا يصلح فيها المنهج التاريخي أو دراسة الحالة وهكذا…وفي حالات كثيرة تفرض مشكلة البحث المنهج الذي يستخدمه الباحث،وإن اختلاف المنهج لا يرجع فقط إلى طبيعة وميدان المشكلة،بل أيضا إلى إمكانات البحث المتاحة،فقد يصلح أكثر من منهج في دراسة بحثية معينة،ومع ذلك تحدد الظروف المتاحة نوع المنهج الذي يختاره الباحث.
تصنيف مناهج البحث:
تشتق كلمة”منهج”من نهج أي سلك طريقا معينا،وبالتالي فإن كلمة”المنهج”تهني الطريق،ولذلك كثيرا ما يقال أن طرق البحث مرادف لمناهج البحث.
إن ترجمة كلمة”منهج”باللغة الإنجليزية ترجع إلى اصل يوناني وتعني البحث أو النظر أو المعرفة،والمعنى الاشتقاقي لها يدل على الطريقة أو المنهج الذي يؤدي إلى الغرض المطلوب.
ويعرف العلماء”المنهج”بأنه فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة،إما من أجل الكشف عن حقيقة مجهولة لدينا،أو من أجل البرهنة على حقيقة لا يعرفها الآخرون،ومن هذا المنطلق،يكون هناك اتجاهان للمناهج من حيث اختلاف الهدف،إحداهما يكشف عن الحقيقة ويسمى منهج التحليل أو الاختراع،والثاني يسمى منهج التصنيف.
والواقع أن تصنيف المناهج يعتمد عادة على معيار ما حتى يتفادى الخلط والتشويش، وتختلف التقسيمات بين المصنفين لاي موضوع،وتتنوع التصنيفات للموضوع الواحد، وينطبق ذلك على مناهج البحث.
وإذا نظرنا إلى مناهج البحث من حيث نوع العمليات العقلية التي توجهها أو تسير على أساسها نجد أن هناك ثلاثة أنواع من المناهج:
1-المنهج الاستدلالي أو الاستنباطي:وفيه يربط العقل بين المقدمات والنتائج، وبيسن الأشياء وعللها على أساس المنطق والتأمل الذهني،فهو يبدأ بالكليات ليصل منها إلى الجزئيات.
2-المنهج الاستقرائي:وهو يمثل عكس سابقه،حيث يبدأ بالجزئيات ليصل منها إلى قوانين عامة،وهو يعتمد على التحقق بالملاحظة المنظمة الخاضعة للتجريب والتحكم في المتغيرات المختلفة.
3-المنهج الاستردادي:يعتمد هذا المنهج على عملية استرداد ما كان في الماضي ليتحقق من مجرى الأحداث،ولتحليل القوى والمشكلات التي صاغت الحاضر.
وفي حال تصنيف مناهج البحث استنادا إلى أسلوب الإجراء،واهم الوسائل التي يستخدمها الباحث،نجد أن هناك المنهج التجريبي وهو الذي يعتمد على إجراء التجارب تحت شروط معينة.
ومنهج المسح الذي يعتمد على جمع البيانات(ميدانيا)بوسائل متعددة وهو يتضمن الدراسة الكشفية والوصفية والتحليلية،ومنهج دراسة الحالة،الذي ينصب على دراسة وحدة معينة، فردا كان أو وحدة اجتماعية،ويرتبط باختبارات ومقاييس خاصة،أما في المنهج التاريخي، فهو يعتمد على الوثائق والآثار والمخلفات الحضارية المختلفة،ولا ينبغي أن يغيب عن الذهن،أنه مع تنوع مناهج البحث فإنها جميعا تخضع بصورة عامة للأسلوب العلمي من حيث الخطوات المشار إليها سابقا.
أوجه النشاط البحثي:
لا شك أن التعبير القائل أن جميع نشاط الفكر الإنساني أبحاثا،فيه الكثير من التجاوز،باعتبار أن هناك اختلافات جوهرية بين النشاطات الفكرية للإنسان،فمنها البحوث الكاملة التي يصل فيها الباحث إلى معرفة جديدة،ومنها المقالات العلمية والتقارير والملخصات وغيرها،وفي كثير من الحالات قد يتخيل الدارس المبتدئ أنه عندما يسجل آراء عدد كبير من الباحثين أو العلماء فيما يتعلق بموضوع ما،أنه قد أجرى بحثا علميا متكاملا.
والحقيقة أن معرفة آراء الآخرين،قد تكون مفيدة،لكنها لا تحل مشكلة أو تؤدي إلى معرفة جديدة،وبالتالي فإنها لا تعد بحثا متكاملا،وحتى الوصول إلى معرفة جديدة لا يكفي في حد ذاته أن يكون بحثا،بل يجب البرهنة عليها والتأكد من صحتها.
ولا يغيب عن الذهن أن المقالات العلمية،لا تعد بحثا بالمعنى الدقيق لهذه المفردة،وذلك لأنها تظل مجرد دراسة أو تلخيص لموضوع أو مشكلة قام ببحثها باحث معين،كما أن المقال التحليلي بهذا المعنى لا يضيف بالضرورة جديدا للمعرفة الإنسانية،فهو لا يزيد في العادة عن تقديم ملخص لمعلومات سبق اكتشافها أو بحث قام به آخرون،ولهذا السبب لا يتقيد كاتب المقال بنفس القواعد التي يلتزم بها الباحث لدى كتابة تقرير عن بحثه،كما لا يتوقع من كاتب المقال توثيق جميع بياناته،في حين يلتزم الباحث لدى كتابة تقرير بحثه بالإشارة إلى مصادر معلوماته بدقة ووضوح،حتى يتسنى للقارئ أو لأي دارس آخر الرجوع إليها والتأكد من صحتها.
وفي الوقت الذي ينتظر فيه من الباحث تقديم شيء جديد وعدم الاكتفاء بمجرد التعبير عن آراء الآخرين مهما كانت قيمتها العلمية،وأن يوضح كيف أن مشكلة علمية قد درست،وتم إيجاد الحلول لها وأن حقائق جديدة قد اكتشفت،فإن كاتب المقال يكتفي بعرض ملاحظاته وخبراته،وقد يحلل ويضيف آراء،ولكن ذلك كله لا يعتبر إضافة علمية جديدة.
وعلاوة على ذلك،فإن المقالات العلمية قد تكتب لمجرد التيسير على الدارسين عند الرغبة في معرفة نتائج بحث ما أو معلومات معينة،ولهذا فإنها تتصف عادة بإثارة التشويق لدى القارئ،وبتقديم الحقائق بطريقة مباشرة وموضوعية ومختصرة،ولكن الأمر ليس كذلك في كتابة تقارير البحوث،حيث أن كثيرا من المقالات تتسم بالذاتية وتتضمن استنتاجات غالبا ما تكون مبنية على الملاحظة غير المضبوطة،كما أنها تكون أحيانا مدعومة بحقائق متميزة لجانب واحد من الموضوع.
ومع أن المقال يؤدي خدمة كبيرة في نشر الأفكار والآراء،إلا أن عرضه يختلف اختلافا كبيرا عن كتابة تقرير البحث،ناهيك عن اختلافه من حيث القيمة العلمية ودرجة الدقة والابتعاد عن العنصر الشخصي الذي تتطلبه الدقة العلمية في كتابة تقارير البحوث.
ويجدر التذكير هنا،إلى أن أي بحث علمي يجب أن يتضمن ثلاثة جوانب رئيسية تؤخذ في الاعتبار لدى تقويم أهميته العلمية وهي:اكتشاف حقيقة جديدة-التمحيص النقدي للبراهين والأدلة المؤدية إلى النتائج التي توصل إليها الباحث-كيفية الاستفادة من الحقائق الجديدة في استخدامها تطبيقيا في الحياة العملية.
ولا شك أن الكشف عن حقيقة معينة تعتبر نشاطا علميا ارقى درجة من مجرد كتابة مقال أو تلخيص جهد علمي معين،ومن الأمثلة على ذلك النوع من النشاط العلمي،اكتشاف فاعلية عقار جديد في تدمير نوع من الفيروسات،أو تجميع معلومات وبيانات من وثائق مختلفة توضح حقيقة تاريخية معينة كالكشف عن مدينة أثرية(مثلا)حيث تعتبر أغلبية عمليات التوثيق لونا من هذا النوع من النشاط البحثي ، وكثيرا ما تتعدى مرحلة الكشف عن الحقائق الى مرحلة التعميمات المستنبطة من هذه الحقائق….

التحليل والتفسير النقدي :
يلجا الكاتب الى أسلوب التحليل والتفسير النقدي لما يتوصل إليه من بيانات مختلفة يسعى الى حمل عملية الكشف عن الحقيقة خطوة أبعد،كما قد يتعامل الباحث في بعض المجالات،مثل الفلسفة والأدب،مع أفكار وآراء أكثر مما يتعامل مع حقائق علمية،مما يجعل البحث يتألف التفسير النقدي لهذه الآراء،ولمعرفة آراء وأفكار الكاتب الأصلي الذي عبر عنها في أعماله الفكرية والتي لا تظهر بشكل محدد،فإنه لا بد من استنباطها عن طريق التفسير النقدي بما يحتويه من براهين وحجج.
ان الوسائل الأساسية المستخدمة في هذا النوع من البحث هي التجربة والمنطق،وكذلك مستوى رفيع من الإمكانات العقلية يتطلبها التفسير النقدي لأنه ينطوي بالضرورة على حكم شخصي مبني على الأسباب المنطقية ومستند إلى التعليل المقبول والمعقول،والتفسير النقدي له قيمته التي لا يمكن إنكارها والتي بدونها يصعب الوصول إلى استنتاجات علمية في مسائل يندر إيجاد حقائق محددة عنها،ومع أن الكشف عن الحقيقة يقدم لنا الكثير من الحقائق عن الإنسان وعالمه،فإنه يوجد جزء كبير من التجربة الإنسانية والإنتاج الفني والفكري لا يمكن بلوغه بالطريقة الواقعية أو بـأي طريقة أخرى إلا عن طريق التفسير النقدي،ويتصف بهذه الحاصية الجزء الأكبر من البحوث ذات الطابع الأكاديمي للعلوم السلوكية والاجتماعية.
خصائص التفسير النقدي:
يتميز التفسير النقدي بثلاث خصائص أساسية هي:
1-أن يقوم الجدل على حقائق ومبادئ معروفة في المجال الذي أجريت فيه الدراسة أو على الأقل يتفق معها
2-أن تكون الحجج المقدمة في التفسير النقدي واضحة ومعقولة،أي أنها يجب أن تنطلق من المنطق،بحيث تكون التعميمات والاستنتاجات التي تم التوصل إليها في هذا النوع من النشاط البحثي مستنبطة منطقيا من الحقائق المعروفة، ومن المبادئ التي يطبقها الباحث عند معالجته لمادته،وعلاوة على ذلك،فإن الخطوات التي قادت الباحث إلى استنتاجاته يجب أن تكون سهلة البرهان في أثناء عملية الاستنتاج من الوقائع أو المقدمات،ذلك أن الإجراء الأساسي في التفسير النقدي هو الاستنتاج من الوقائع أو المقدمات،والشرط هنا أن يكون هذا الاستنتاج صادقا،حتى يستطيع القارئ تتبع الحجج دون أي معوقات تجعله مضطرا إلى القبول برأي الباحث دون اقتناع.
3-إن التفسير النقدي،يتوقع منه أن يتمخض عن بعض التعميمات التي ترتبت على عملية الاستنتاج من الوقائع أو المقدمات،ولهذا فمن الضروري أن يكون الرأي الاستنتاجي للباحث مبنيا على الحقائق والبيانات المقبولة في مجال البحث ومدعومة بالمنطق والبرهان.
ولا يغيب عن الذهن،أنه يجب أثناء التفسير النقدي،تلافي وضع استنتاج يعتمد على الحدس أو التخمين أو على مجرد انطباعات عامة أكثر مما يعتمد على التعليل والمناقشة المنطقية.
أما البحث المتكامل،فإنه يتضمن الكشف عن الحقيقة والتفسير النقدي،ويزيد عن ذلك الوصول إلى نظرية أو مبدأ أو معرفة جديدة،ويظهر إمكانية تطبيقها في مجالات الحياة المتصلة بموضوع البحث.
ولا يخفى في هذا المجال،أن الكشف عن الحقيقة فقط لا يحل بالضرورة أي مشكلة،كما أن التفسير النقدي مع أنه يهدف في الغالب إلى حل مشكلة ويقوم على أساس الاستنتاج المنطقي من الوقائع والمقدمات،لا يمكن دائما أن يبني قضيته على البرهان الواقعي حيث يعتمد إلى حد كبير على الحكم الشخصي،وعليه،فإنه بعد أن يتم تحديد مشكلة البحث،فإن الخطوة الأولى تتضمن الإجابة على السؤال التالي:”ما هي الحقائق الكامنة في هذه المشكلة؟”وبالإضافة إلى تجميع البيانات حولها،قد يسأل الباحث أيضا”ماذا يقول الخبراء أو الباحثين في هذه المشكلة؟”وبعد أن يفرغ الباحث من جمع الحقائق قد يتساءل أيضا:ماذا توحي هذه الحقائق من أجل حل المشكلة؟،ثم بعد أن يقرر رأيه في الحل الصحيح،يبدأ الباحث في اختباره بكافة الوسائل والطرق المختلفة حتى تتأكد له صحته،مع ضرورة أن يراعي الباحث مدى اتساق الحل مع جميع الحقائق المعروفة،ومدى وضوح هذه الحقائق وكفايتها لدعم وتأييد الاستنتاج النهائي.
ويجدر التذكير في هذا المقام،أن البحوث المتكاملة تختلف من حيث الهرم العام،فهناك البحوث النظرية، والبحوث التطبيقية،كما تختلف من حيث البحوث الأساسية والبحوث العلمية،والاختلاف بين البحوث من حيث كونها نظرية أو تطبيقية لا يعد تعارضا أو تناقضا،فإذا تصورنا استمرارية ذات اتجاهين للبحث العلمي،فإن أحدها يمثل البحوث النظرية ويمثل الآخر البحوث التطبيقية، والمعلوم أن البحوث النظرية تهدف إلى الوصول إلى المعرفة من أجل المعرفة فقط،وبهذا لا يكون هناك غرض تطبيقي معروف بعد الانتهاء من البحث،وفي الطرف الآخر فإن البحوث التطبيقية ترمي أساسا إلى الوصول إلى حل مشكلة معينة ولو لم يصل الباحث أثناء بحثه إلى حقائق جديدة.
ويضاف إلى ذلك،أن البحوث المتكاملة قد تكون بحوثا رئيسية تهدف إلى دراسة مشكلة عامة مع اجراء الدراسة على محيط معين،وقد تكون بحوثا عملية تهدف إلى دراسة مشكلة محلية في وضع خاص.
ويختلف هذان النوعان من البحوث من حيث سير البحث في عدة نقاط ويلتقيان في نقاط أخرى،فمثلا من حيث مجال اختيار موضوع البحث(المشكلة)يكون البحث الرئيسي في ميدان معرفة معين،كالمجال التاريخي أو التربوي(مثلا)،أما في البحث العلمي فيكون هناك مشكلة خاصة في مكان وزمان محدد،كما يختلف هدف أو غرض البحث بين النوعين،ففي الأول، يكون الهدف من الدراسة هو الوصول إلى معرفة معينة في الميدان العلمي الذي تنتمي إليه مشكلة البحث،أما في الثاني،فيتركز الهدف على حل المشكلة محليا،والواضح أن الغرض التطبيقي عند التعميم واستخدام النتائج يختلف في البحث الرئيسي،في أن نتائجه تستخدم على نطاق واسع،أما في البحث العلمي،فينحصر استخدام النتائج على مجتمع البحث فقط.
والملاحظ في هذا المجال أن الباحث في البحث الرئيسي،له حرية خلق الظروف التي يريد اجراء البحث فيها،أما في الثاني(البحث العلمي)فإنه يلتزم بالظروف القائمة فعلا،ويتفق النوعان في بقية خطوات البحث،كالفروض وطريقة البحث،وجمع البيانات،والوسائل المستخدمة،كما قد يتفقان في الصعوبات التي تواجه الباحث.
البحوث الأكاديمية:
لقد جرت العادة في معظم الجامعات،أن يكلف طلاب الدراسات العليا(ماجستير والدكتوراه) بإعداد دراسات مستقلة قائمة بذاتها للحصول على درجة علمية عليا،ذات طبيعة أصيلة، يجريها الطالب على النحو اللائق،مدعمة بتقرير عن الإجراءات والنتائج يكون مكتوبا في صورة رسالة أو بحث والغرض من هذا المطلب هو أن يتحدد أساسا ما إذا كان الباحث قادرا على إضافة معرفة أصيلة إلى حقل تخصصه،وهل يستطيع أن يبحث بنجاح موضوعا رئيسيا،فالكثير من الباحثين يجهلون طبيعة وهدف رسالة الدكتوراه أو بحث الماجستير،وهم يتوقعون أن تقوم هيئة التدريس بالكلية بالإشراف الدقيق على كل مرحلة من مراحل البحث، لكن الحال ليست كذلك في معظم الجامعات ومعاهد البحوث،فالباحث يدفع به قصدا إلى الاعتماد على وسائله الذاتية،وعليه أن يبرهن على قدراته في تحديد مشكلة مناسبة، واستنباط طريقة فعالة لحلها،وعليه أن يحدد ويقيم بشكل صحيح معنى وقيمة جميع البراهين الوثيقة الصلة بموضوع البحث،ثم يصل إلى خاتمة منطقية يسهل الدفاع عنها.
وفي العادة تبدأ أطروحة الدكتوراه أو بحث الماجستير عندما يتقدم الطالب بطلب إلى قسم الدراسات العليا،وهذا يكون غالبا عن طريق أستاذ من الجامعة من أجل السماح له بتقصي أبعاد مشكلة معينة في حقل تخصصه،وقد يبين الطالب الخطوات التي اتخذها ليؤكد أن المشكلة الجديدة المراد معالجتها جديدة فعلا،وبأنه شخصيا لديه المقدرة والكفاءة لإيجاد حل لها.
وفي بعض الأحيان تطلب الجامعات من الباحث أن يقدم بالتفصيل مخططا تمهيديا(الإطار النظري)مكتوبا لاقتراحه متضمنا عرض دقيق للمشكلة وحدودها،ووصف للإجراءات التي ينوي اتباعها وافتراضاته العلمية وتفسير الأسباب التي دعته للقيام بهذا البحث والفائدة المحتملة لنتائجه،وتعريفات بالمصطلحات الخاصة التي ينوي استخدامها في التقرير النهائي،وعرض للمراجع المتداولة بمعنى أن يقدم أبحاث(مشابهة)عن الموضوع،وبيان مختصر عن كفاءات الباحث الصالحة لهذا المشروع،في حين أن بعض الجامعات الأخرى قد تكتفي أن تعرف فقط طبيعة مشكلة البحث.
إن الشيء الأساسي في كلتا الحالتين الذي على الطالب أن يدركه جيدا،هو أنه مهما كانت الأمور التي قد تطلبها أقسام الدراسات العليا بالجامعة من أجل الحصول على المعلومات التمهيدية،فإنها تنتظر منه(الطالب)أن يأخذ على عاتقه عبء البرهان على قدراته وخططه، وأن يتخذ الخطوة الاستهلالية الكاملة في دفع عجلة الدراسة إلى الأمام.
ومهما يكن الأمر فإنه بمجرد حصول الطالب على الموافقة الرسمية بالبدء بالدراسة،ينبغي له أن لا يتوقع من الأستاذ المشرف عليه أو من أستاذه أن يخبره بالتفصيل بما يجب عليه أن يفعله في هذا المجال،وعليه أن يعمل أساسا بشكل مستقل باستثناء بعض اللقاءات التي تتم من آن لآخر،ولكن بعض الأساتذة المشرفين يكون لديهم الرغبة في العمل عن كثب ولفترات طويلة مع الطالب،كما أنهم يودون أن يكونوا على اتصال دائم ومباشر بجميع الخطوات التي تتخذ في الدراسة،في حين أن البعض الآخر من هؤلاء الأساتذة لا يبذل أي محاولة لتقصي ما أحرزه الطالب من تقدم،ولا يتطوع بتقديم أية نصيحة،وإن كان على استعداد دائم لمناقشة اية متاعب قد يواجهها الطالب في استقصائه،وتقديم النصيحة العلمية عند استشارتهم.
وبصورة عامة،يجب أن ينظر الباحث أو الطالب إلى الأستاذ المشرف على أنه”ملاذ يلجا إليه”يقدم المساعدة فقط عندما يصبح السير في العملية البحثية عسيرا،ولكن ليس كشخص يضع تعليمات مفصلة لمسار الدراسة،لأن رسالة الدكتوراه أو بحث الماجستير،سوف يفقد الكثير من قيمته بالنسبة للطالب،ولن يكون اختبارا حقيقيا لقدراته لو أن الكثير من القرارات الأساسية اضطر الأستاذ المشرف إلى اتخاذها نيابة عن الطالب.
وفي هذا المقام لا نستطيع إلا أن نتوجه إلى الباحثين المبتدئين ولطلاب الدراسات العليا بنصيحة عملية وهي أن من أهم شروط البحث العلمي المثمر أولا،أن لا يبدأ الباحث خطوة تالية دون أن يكون قد تمكن من الخطوة السابقة،حتى لا يكون مجرد أداة لتسجيل الوقائع،بل عليه محاولة النفاذ إلى سر حدوث هذه الوقائع،باحثا باستمرار عن القوانين التي تتحكم فيها،وثانيا:أن يكون الباحث متواضعا،لأن الغطرسة والغرور تجعله عنيدا حين تلزم الموافقة والانحناء وتمنعه من قبول المساعدة وتفقده الروح الموضوعية،وثالثا،الشغف بالعمل،فالعلم يتطلب من الإنسان كل حياته،أن يكون شغوفا بعمله وبحثه.
إن التصدي لمشكلة من المشكلات بالبحث العلمي هو فن ومهارة،يحقق فيها الباحث ذاته عن طريق أسلوب تفكيره،ورؤيته للواقع،وتفسير البيانات،وما يعتمد عليه من وسائل المعالجة،وطريقة العرض،استنادا إلى القواعد العامة للمنهج العلمي في البحث،وهناك نقطة منهجية وهي أن تحديد مشكلة البحث يعادل نصف البحث والاهتمام لصياغتها صياغة واعية ومنظمة ..

زر الذهاب إلى الأعلى