أحمد شوقي في مدح الرسول
أحمد شوقي
شاعر مصري يُعتبر من أعظم الشّعراء العرب في جميع العصور، لُقّب بـ (أمير الشّعراء)، ولد في القاهرة عام 1868 من أب کرديّ وأم من أصول ترکيّة شرکسيّة، عملت جدّته لأمه وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل، وعلى جانب كبير من الغنى والثّراء، فتكفلت بتربيته، وعليه، فقد نشأ معها في القصر، ولما بلغ الرابعة من عمره التحق بالكُتّاب، فحفظ قدرًا من القرآن، وتعلّم القراءة والكتابة، ثمّ التحق بالمدرسة الابتدائيّة وأظهر فيها بلاغة واضحة كوفئ عليها بإعفائه من الرّسمو المدرسية، انكب على دواوين فحول الشّعراء حفظًا واستشهاداً، ومن هذه المرحلة بدأ الشّعر يجري على لسانه.
يعتبر شوقي رائداً في النّهضة الأدبيّة والفنّية والسياسيّة والمسرحيّة التي عاش بها، أمّا في الشّعر، فإنّ هذا التّجديد ظهر واضحاً في معظم قصائده، خاصّةً في ديوانه (الشّوقيات) الذي يقع في أربعة أجزاء تشمل على قصائد في المديح، والرّثاء، والحكايات، والوطنيّة، والحكمة، والتّعليم، والسّياسة، والمسرح، والوصف، والمدح، وأغراض عامة أخرى. وممّا كتبه أحمد شوقي في مدح الرّسول عليه السّلام، قصيدته (نهج البردة) التي سنذكرها في هذا المقال. (1)
قصيدة نهج البُردة في مدح الرّسول عليه السّلام
ريـمٌ عـلى القـاعِ بيـن البـانِ والعلَمِ
أَحَـلّ سـفْكَ دمـي فـي الأَشهر الحُرُمِ
رمـى القضـاءُ بعيْنـي جُـؤذَر أَسدًا
يـا سـاكنَ القـاعِ، أَدرِكْ ساكن الأَجمِ
لمــا رَنــا حــدّثتني النفسُ قائلـةً
يـا وَيْـحَ جنبِكَ، بالسهم المُصيب رُمِي
جحدته، وكـتمت السـهمَ فـي كبدي
جُـرْحُ الأَحبـة عنـدي غـيرُ ذي أَلـمِ
رزقـتَ أَسـمح مـا في الناس من خُلق
إِذا رُزقـتَ التمـاس العـذْر فـي الشِّيَمِ
يـا لائـمي في هواه – والهوى قدَرٌ –
لـو شـفَّك الوجـدُ لـم تَعـذِل ولم تلُمِِ
لقــد أَنلْتُــك أُذْنًــا غـير واعيـةٍ
ورُبَّ منتصـتٍ والقلـبُ فـي صَمـمِ
يـا نـاعس الطَّرْفِ; لاذقْتَ الهوى أَبدًا
أَسـهرْتَ مُضنـاك في حفظِ الهوى، فنمِ
أَفْـديك إِلفً، ولا آلـو الخيـالَ فِـدًى
أَغـراك بـالبخلِ مَـن أَغـراه بـالكرمِ
سـرَى، فصـادف جُرحًـا داميً، فأَسَا
ورُبَّ فضــلٍ عـلى العشـاقِ للحُـلُمِ
مَــن المـوائسُ بانًـا بـالرُّبى وقَنًـا
اللاعبـاتُ برُوحـي، السّـافحات دمِي؟
الســافِراتُ كأَمثـالِ البُـدُور ضُحًـى
يُغِـرْنَ شـمسَ الضُّحى بالحَلْي والعِصَمِ
القــاتلاتُ بأَجفــانٍ بهــا سَــقَمٌ
وللمنيــةِ أَســبابٌ مــن السّــقَمِ
العــاثراتُ بأَلبــابِ الرجـال، ومـا
أُقِلـنَ مـن عـثراتِ الـدَّلِّ في الرَّسمِ
المضرمـاتُ خُـدودً، أسـفرت، وَجَلتْ
عــن فِتنـة، تُسـلِمُ الأَكبـادَ للضـرَمِ
الحــاملاتُ لــواءَ الحسـنِ مختلفًـا
أَشــكالُه، وهـو فـردٌ غـير منقسِـمِ
مـن كـلِّ بيضـاءَ أَو سـمراءَ زُيِّنتا
للعيـنِ، والحُسـنُ فـي الآرامِ كالعُصُمِ
يُـرَعْنَ للبصـرِ السـامي، ومن عجبٍ
إِذا أَشَــرن أَســرن اللّيـثَ بـالعَنمِ
وضعـتُ خـدِّي، وقسَّـمتُ الفؤادَ ربًى
يَـرتَعنَ فـي كُـنُسٍ منـه وفـي أَكـمِ
يـا بنـت ذي اللِّبَـدِ المحـميِّ جانِبُـه
أَلقـاكِ فـي الغاب، أَم أَلقاكِ في الأطُمِ؟
مـا كـنتُ أَعلـم حـتى عـنَّ مسـكنُه
أَن المُنــى والمنايـا مضـرِبُ الخِـيمِ
مَـنْ أَنبتَ الغصنَ مِنْ صَمصامةٍ ذكرٍ؟
وأَخـرج الـرّيمَ مِـن ضِرغامـة قرِمِ؟
بينـي وبينـكِ مـن سُـمْرِ القَنا حُجُب
ومثلُهــا عِفَّــةٌ عُذرِيــةُ العِصَـمِ
لـم أَغش مغنـاكِ إِلا في غضونِ كَرًى
مَغنــاك أَبعــدُ للمشـتاقِ مـن إِرَمِ
يـا نفسُ، دنيـاكِ تُخْـفي كـلَّ مُبكيـةٍ
وإِن بــدا لـكِ منهـا حُسـنُ مُبتسَـمِ
فُضِّـي بتقـواكِ فاهًـا كلمـا ضَحكتْ
كمــا يُفـضُّ أَذَى الرّقشـاءِ بـالثَّرَمِ
مخطوبـةٌ – منـذُ كان النّاسُ – خاطبَةٌ
مـن أَولِ الدهـر لـم تُـرْمِل، ولم تَئمِ
يَفنـى الزّمـانُ، ويبقـى مـن إِساءَتِها
جــرْحٌ بـآدم يَبكـي منـه فـي الأَدمِ
لا تحــفلي بجناه، أَو جنايتهــا
المـوتُ بـالزَّهْر مثـلُ المـوت بالفَحَمِ
كـم نـائمٍ لا يَراه، وهـي سـاهرةٌ
لــولا الأَمـانيُّ والأَحـلامُ لـم ينـمِ
طــورًا تمـدّك فـي نُعْمـى وعافيـةٍ
وتـارةً فـي قـرَار البـؤس والـوَصَمِ
كـم ضلَّلتـكَ، وَمَـن تُحْجَـبْ بصيرتُه
إِن يلـقَ صابـا يَـرِد، أَو عَلْقمـا يَسُمِ
يــا ويلتـاهُ لنفسـي! راعَهـا ودَهـا
مُسْـوَدَّةُ الصُّحْـفِ فـي مُبْيَضَّـةِ اللّمَمِ
ركَضْتهـا فـي مَـرِيع المعصياتِ، وما
أَخـذتُ مـن حِمْيَـةِ الطاعـات للتُّخَـمِ
هــامت عـلى أَثَـرِ اللَّـذاتِ تطلبُهـا
والنفسُ إِن يَدْعُهـا داعـي الصِّبـا تَهمِ
صــلاحُ أَمـرِك للأَخـلاقِ مرجِعُـه
فقـــوِّم النفسَ بــالأَخلاقِ تســتقمِ
والنفسُ مـن خيرِهـا فـي خـيرِ عافيةٍ
والنفسُ مـن شـرها فـي مَـرْتَعٍ وَخِمِ
تطغـى إِذا مُكِّـنَتْ مـن لـذَّةٍ وهـوًى
طَغْـيَ الجيـادِ إِذا عَضَّـت على الشُّكُمِ
إِنْ جَـلَّ ذَنبـي عـن الغُفـران لي أَملٌ
فـي اللـهِ يجـعلني فـي خـيرِ مُعتصَمِ
أُلقـي رجـائي إِذا عـزَّ المُجـيرُ على
مُفـرِّج الكـرب فـي الـدارينِ والغمَمِ
إِذا خــفضتُ جَنــاحَ الـذُّلِّ أَسـأَله
عِـزَّ الشفاعةِ; لـم أَسـأَل سـوى أَمَمِ
وإِن تقـــدّم ذو تقــوى بصالحــةٍ
قــدّمتُ بيــن يديـه عَـبْرَةَ النـدَمِ
لـزِمتُ بـابَ أَمـير الأَنبيـاءِ، ومَـنْ
يُمْسِـكْ بمِفتــاح بـاب اللـه يغتنِـمِ
فكــلُّ فضـلٍ، وإِحسـانٍ، وعارفـةٍ
مــا بيــن مســتلمٍ منـه ومُلـتزمِ
علقـتُ مـن مدحـهِ حـبلاً أعـزُّ بـه
فـي يـوم لا عِـزَّ بالأَنسـابِ واللُّحَـمِ
يُـزرِي قَـرِيضِي زُهَـيْرًا حين أَمدحُه
ولا يقـاسُ إِلـى جـودي لـدَى هَـرِمِ
محــمدٌ صفـوةُ البـاري، ورحمتُـه
وبغيَـةُ اللـه مـن خَـلْقٍ ومـن نَسَـمِ
وصـاحبُ الحـوض يـومَ الرُّسْلُ سائلةٌ
متـى الـورودُ؟ وجـبريلُ الأَمين ظَمي
ســناؤه وســناهُ الشــمسُ طالعـةً
فـالجِرمُ فـي فلـكٍ، والضوءُ في عَلَمِ
قـد أَخطـأَ النجـمَ مـا نـالت أُبوَّتُـه
مـن سـؤددٍ بـاذخ فـي مظهَـرٍ سَنِم
نُمُـوا إِليـه، فـزادوا في الورَى شرَفًا
ورُبَّ أَصـلٍ لفـرع فـي الفخـارِ نُمي
حَــوَاه فـي سُـبُحاتِ الطُّهـرِ قبلهـم
نـوران قامـا مقـام الصُّلـبِ والرَّحِم
لمــا رآه بَحــيرا قــال: نعرِفُــه
بمـا حفظنـا مـن الأَسـماءِ والسِّـيمِ
سـائلْ حِراءَ، وروحَ القدس: هل عَلما
مَصـونَ سِـرٍّ عـن الإِدراكِ مُنْكَـتِمِ؟
كــم جيئـةٍ وذهـابٍ شُـرِّفتْ بهمـا
بَطحـاءُ مكـة فـي الإِصبـاح والغَسَمِ
ووحشةٍ لابــنِ عبـد اللـه بينهمـا
أَشـهى من الأُنس بالأَحبـاب والحشَمِ
يُسـامِر الوحـيَ فيهـا قبـل مهبِطـه
ومَـن يبشِّـرْ بسِـيمَى الخـير يَتَّسِـمِ
لمـا دعـا الصَّحْـبُ يستسقونَ من ظمإٍ
فاضتْ يـداه مـن التسـنيم بالسَّـنِمِ
وظلَّلَتــه، فصــارت تسـتظلُّ بـه
غمامــةٌ جذَبَتْهــا خِــيرةُ الــديَمِ