أأيقاظ أمية أم نيام؟!
لوصف الحال في سودان اليوم لن أجد أفضل من قصيدة الشاعر الأموي نصر بن سيار الكناني التي خاطب بها خلفاء بني أمية في أيامهم الأخيرة قبل الانهيار المدوي للدولة وبعد أن تطاير شرر الثورة وأخذ أوار لهيبها الموار يزمجر ويقذف بحممه ليقضي على تلك الدولة التي كانت ملء الأسماع والأبصار أيام سطوتها وقوتها فقد قال ذلك الشاعر الفحل محذراً خلفاء بني أمية الذين بلغ بهم الضعف والهوان في تلك الأيام ذروته :
أرى تحت الرماد وميض نار
وأخشى أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تزكى
وأن الحرب أولها كلام
فقلت من التعجب ليت شعري
أأيقاظ أمية أم نيام
اخترت تلك الأبيات من قصيدة ابن سيار لأعبر عمّا أراه ماثلاً أمامي والناس يصطفون رجالاً ونساء في طوابير ممتدة الساعات الطوال ليحصلوا على رغيف الخبز .
لكي تصدقوني أذكر لكم مصدري فقد استعنت بالأمس عصراً بأحد معارفي (محمد السيد البدري) فوقف في الصف ساعتين كاملتين ليحصل على بعض الأرغفة .. تحدث عدد ممن قابلتهم صباح وظهر الأمس ، وبعضهم من أهلي ، عن كيف كان معظم المصطفين يصبون جام غضبهم على الحكومة.. هذا ليس حال صف واحد إنما جميع الصفوف التي أقدر أنها ربما لا تقل عن الألف في مختلف أنحاء العاصمة.. استفتاء يعبر عن حالة من الغليان لا أجد مثيلاً لها غير ما عبر عنه نصر بن سيار .. بعضهم أورد نتيجة استفتاء (اون لاين) متداولة في الواتساب فكانت النتيجة مدهشة ومخيفة .. لن أذكرها هنا بالرغم من أني أكاد أصدقها فقد بلغ السيل الزبى والروح الحلقوم (وبنو أمية) يغطون في نوم عميق.
أجزم بأن الشعب السوداني قد صبر على هذه الحكومة كما لم يصبر في تاريخه الطويل بعد أن أذاقته (الانقاذ) من صنوف التضييق والقهر ما لم يشهده طوال سنينها الماضيات بل قبل أن تجثم بكلكلها على جسده المنهك.
حرم الفقراء وليس الأغنياء ومن يسمون بالقطط السمان ، حرموا من سحب ودائعهم القليلة في البنوك ..رأيت بعض النساء قبل أيام في فرع أحد البنوك بعيني رأسي يبكين وكتبت عن ذلك متحسراً بعد أن رأيت كيف فقد الناس الثقة في النظام المصرفي الذي يصعب أن يستعيد تلك الثقة بعد أن رأى الناس نجوم الليل في وسط النهار قهراً وعذاباً والدولار يتمطى لا يوقف تمدده كل معالجات البصيرة أم حمد القابضة على حلقومه وتوشك أن تزهق روحه، أما التضخم وغلاء الأسعار فحدث ولا حرج فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أزمة الوقود (جازولين وبنزين) والتي بدأت بها مسيرة العذاب لا تزال تطل برأسها كل حين حتى بعد أن أصلحت المصفاة التي تعلّلوا بها سبباً للضائقة التي ما كان ينبغي أن تنشأ لو أحسنوا التدبير .
وهكذا نتقلب من بؤس إلى بؤس .. انقطاع للمياه الأيام ذات العدد في كثير من أحياء العاصمة .. بات الناس لا يسألون عن اتساخها (وعكورتها) لأن مجرد وجودها مهما بلغ اتساخها وتلوثها هو عين النعمة .. قطع للكهرباء بسبب من (مطيرة) أو بلا سبب وهكذا هو حالنا.
لكن كل ذلك يهون بالمقارنة مع انعدام رغيف الخبز الذي لا يكافئ أزمة الوقود والأزمات الأخرى بما في ذلك الغلاء الطاحن في كل السلع والذي أحال الأسواق إلى فوضى ضاربة الأطناب.
لا أحد يجيب .. لماذا حدثت أزمة الخبز ولماذا تضرب المخابز ولماذا تنشأ أزمة في الدقيق مثلما يسكتون عن كل الأزمات الأخرى ؟! ما عدنا نهتم بالمخزون الإستراتيجي أو غير الاستراتيجي بعد أن اعتمدنا سياسة رزق اليوم في اليوم وإطفاء الحرائق بعد اشتعالها .. ليس إطفاءها لحظة الحريق إنما بعد أن تلتهم النار الأخضر واليابس.
الشاعر نصر بن سيار الذي نصح بني أمية بتلك الأبيات الصارخة كان أحد ولاة بني أمية في منطقة خراسان التي رآها تتململ منذرة بثورة لا تبقي ولا تذر، لكن لا أحد من ولاة الإنقاذ يمتلك من الجرأة ليقول ما قاله شاعر بني أمية، فالجميع يصفقون ويكبرون لأنهم لا يرون وميض النار المنبعث من تحت الرماد.
ذلك أكثر ما أخشاه ، فمن تراه يزأر ويصرخ مع ابن سيار : (أأيقاظ أمية أم نيام)؟!