الاخبار

رصاصة الكلمة!

%name رصاصة الكلمة!

-1-

قبل ستِّ سنوات، وقعَتْ حادثةُ مقتل المرحومة عوضية عجبنا، برصاص ضابطٍ بشرطة النظام العام، حديث التعيين قليل الخبرة.

وقتذاك، سارعت الشرطة على عجلٍ لإخراج بيانٍ ملغومٍ ومُرتبكٍ ومُسيءٍ للقتيلة.

وحينما اكتشفت خطأها وسوء صنيعها، وما اقترفت من ذنبٍ مهني، سعت لتصحيح ذلك البيان، بآخر أكثر حصافة ومهنية، فجاء دقيقاً ومُنضبطاً ومُهذَّباً.

كتبتُ وقتها في هذه المساحة:

بالحيثيَّات والمنطق البسيط، لا يُمكن أن تتسبَّب حملة نظام عام – لا تصل عقوبة الجرائم المستهدفة حد الجلد والسجن المُخفَّف – في قتل امرأة، وإحراق مكاتب الشرطة، وانطلاق التظاهرات، وكسر أيدي نساء.

إنها روشتة البصيرة أم حمد، لم تفقد صلاحيَّتها بعد!

-2-
طالبتُ وقتذاك ولاية الخرطوم، بأن تُفكِّر جدِّياً في حلِّ شرطة النظام العام، أو مُراجعة قانونها المعيب، حتى لا تتوالى المصائب جرَّاء صنائع بعض منسوبيها ورعونة تصرُّفاتهم.

شرطة النظام العام، أصبحت تصنع من المشكلات والأزمات، ما يُفضي للفوضى والاضطراب، وتلطيخ سمعة الدولة وإثارة الكراهية ضدَّها.

وقُلنا من قبل، ولا نزال نكرر: مُهمَّة تقويم السلوك لا تصل حد القتل الفعلي والتجريح المعنوي.

للأسف، بعض أجهزة الدولة تتحرَّك في بعض المواقف، بدافع عصبيَّة الزمالة، فتتحوَّل أخطاء الأفراد وتجاوزاتهم إلى فواتير تُسدَّدُ من الحساب العام، إثارة كراهية وتشويه سمعة.

وزارة الصحة بولاية الخرطوم، وقعت في نفس الخطأ، ولُدِغَتْ من ذات الجحر، عندما تعاملت مع صور مستشفى بحري بإطلاق تصريحاتٍ طائشة وغير حصيفة، ثم سرعان ما أدركت خطأها وسوء فعلها، فحاولت إصلاح ما أفسدت بتصريحاتٍ عقلانيةٍ مُتوازنة.

-3-

بعد ستِّ سنوات من الخطأ في التعامل مع حادثة عوضية عجبنا، وما ترتَّب على بيان الشرطة من استقطاب إثنيٍّ حادٍّ وتبعه تنازعٌ قضائيٌّ مرير؛ وبعد أيَّام قليلة من وقائع مستشفى بحري، والتعامل الإعلامي الأخرق مع الحدث؛ جاءت الشرطة لتُكرِّر ذات الأخطاء بنفس الألوان، دون عبرةٍ ولا عظةٍ من الدروس السَّابقة.

مع احترامي الموفور للشرطة السودانية، وإشادتي المُتكرِّرة بعملها وأدائها في حفظ الأمن وتوفير الطمأنينة؛ أجد أن البيان الأوَّل الذي خرج من مكاتبها الإعلامية تعليقاً على حادثة قتيل شارع النيل، هو الأسوأ في تاريخ البيانات الرسمية، ويحمل في ثناياه بذورَ جريمةٍ جنائيَّة.

إنها العجلة والارتباك وقصور الكفاءة ودفن الليل، قبل اكتمال المعلومات وبزوغ ضوء الحقائق.

كان يكفي الترحُّم على الفقيد، والوعد بالتَّحقيق وترْك القضية لمسارها الطبيعي.

-4-

البيان يفتقد للحسِّ القانوني، بما حمل من اتِّهاماتٍ تجريميةٍ في حقِّ القتيل، يتَّضح من بيان الأُسرة أن الكثير منها أو بعضها غير صحيح.

البيان يفتقد للحسِّ الإعلامي، لأنه حقَّق نقيض مراد كاتبيه، فقد أثار من البلبلة والسخط والاستياء، ما هو مُضِرٌّ بصورة الشرطة وسمعتها ومُستفزٌّ لأُسرة القتيل.

البيان يفتقد للحس الاجتماعي، المُراعي للأعراف والتقاليد السودانية السَّمحة وروح الدين الحنيف، حينما تحدَّث بصورة مُسيئة ومُشينة لسمعة القتيل وأسرته كذلك.

البيان افتقد للذوق السليم والخلق القويم، عندما تجاهل بسبق الإصرار، الترحُّم على القتيل ومُواساة أهله، والوعد بتحقيق العدالة.

يبدو أن الشرطة أدركت ما اشتمل عليه بيانُها الأوَّل من أخطاء وتجاوزات، لا تليق بالمُبتدئين في الإعلام والعمل العام، فسارعت بإخراج بيان آخر – مثل ما فعلت في قضية عوضية – كان أكثر مهنيَّةً وحصافةً ومُراعاةً لكُلِّ ما تغافل عنه البيان الأوَّل أو جهل به.

-أخيراً-
الكلمة مثل الرصاصة، إذا خرجت لا تعود، وإذا خرجت فربما جرحت أو قتلت أو أصمَّت أو أدْمَتْ.

(مقولة مأثورة).

زر الذهاب إلى الأعلى