التعليمي

النهضة العربية

النّهضة العربية

شهدت الفترةُ المُمتدّة بين أواخرِ القرنِ التّاسع عشر وأوائل القرن العشرين في مِصر نهضةً ثقافيّةً امتدَّ نفوذَها إلى سوريا ولبنان العثمانيتين، وفاس، ومرّاكش، وحملت هذه النّهضة مُسمّيات عدّة منها حركة التّنوير العربيّة، واليقظة العربيّة. وقد أُطفِئت شعلتُها مع اندلاعِ الحربِ العالميّة الأولى، وكان لهذه النّهضةِ دوراً ذات أهميّةً بالغةً في إنقاذِ اللّغة العربيّة وانتشالهِا بعد أن تعرّضت للضّعف والتّقهقر، وعمِلَت على استحداثِ أوّل أدبٍ عربيٍّ معاصرٍ، وساهمت أيضاً في بثِّ مشاعرِ الهويّة العربيّة من جديد، ووضَعَت علاقة الدّول العربية بالعُثمانيّةِ قيدَ البحثِ والمناقشة.

ويُشار إلى أنَّ رجالاتِ اليقظةِ العربيّة قاموا برفعِ شعاراتٍ تعُود أُصولُها إلى الثّورة الفرنسيّة التي تُنادي بالحرّية وتُطالب بالعدالةِ والمُساواةِ، كما تأثّر مؤسّسو النّهضةِ بفلاسفة عصرِ الأنوارِ الأُوروبيّ. وتعرّضت السّلطة المركزيّة في الدّولة العثمانيّةِ للمعارضةِ من قِبَل رجالاتِ النّهضة. من أبرز سِماتِ هذه النّهضة أنّها كانت طريقاً لبدءِ انتشارِ دورِ التّعليم كالمدارسِ والجامعاتِ، فانطلقت مرحلةُ تأسيس الصّحف والمجلاتِ، وحظيت العلومُ بمختلف أنواعِها بالاهتمام البالغ، وشهِدت تلك الفترةُ إنشاءَ مشاريعَ اقتصاديّةٍ في غاية الأهمّية مثل حفر قناة السّويس المصرية، وبعض المعالم المِعماريّة التي ما زالت قائمة حتّى وقتِنا الحاضر، كميدان التّحرير في العاصمة المصريّة القاهرة، وساحة المَرجة في العاصمة السّورية دمشق.

ومن الجدير بالذّكر أنَّ اللّغة العربيّة وآدابها قد بدأت تتراجع منذ تَغَوُّل التّتار على بغداد وسقوطِها بيدهِم، واستمرّ ذلك عدّة عصورٍ حتى وصل الأمر إلى شبه اندثارِها، إلا أنّه عند قيام النّهضة العربيّة كان لا يزال هناك بصيصاً يبعثُ الأملَ في نفوس المسلمين العرب للنّهوض باللّغة وآدابها، ويمكن الإيجاز بأنّ هذه النّهضة جاءت لتُشكّل نقلةً نوعيّةً لمكانتها في العصور التي أدّت إلى تقَهقُرِها إلى مكانةٍ أفضلَ وأسمى في عصر النّهضة العربية وما تلاها، ولو بقي العرب في ذلك الوقت على ما هم عليه لكان ذلك اسمه “انحطاطاً” نقيض النّهضة تماماً، ولكن بدأت اللّغة باستعادة حيويّتها عندما استيقظَ العرب من السّبات، فكانت دافعاً مُهمّاً في تكوين الأمة، ويُذكر بأنّ هذه النّهضة قد سبقتها نهضةٌ دينيّةٌ في عام ألفٍ ومئةٍ وسبعٍ وخمسين هجريّ ساهمت في رفعِ المُستوى الفكريّ لدى الأفراد.

عوامل قيام النّهضة العربيّة

اجتمعت عدّة عوامل ساعدت على قيام النّهضة العربيّة، وأبرز هذه العوامل التي تُعدُّ رئيسية:

  • عوامل داخليّة، وهذه العوامل هي:
    • حركاتُ الإصلاح الإسلاميّ.
    • الجمعياتُ والأحزابُ السّياسية.
    • سياسة التَّتريك، والتي تقتضي جعلَ اللّغة التّركية اللّغة الأمّ، وتهميش اللّغة العربيّة تماماً.
  • عوامل خارجيّة، وهي:
    • انخراطُ الوطن العربيّ وتأثّره بشكلٍ كبيرٍ بالفكرِ الأوروبيّ.
    • شنّ الحملاتِ الفرنسيّة على مِصر وبلاد الشّام.
    • قيام محمد علي باشا بإصلاحاتٍ كثيرةٍ، التي نقل من خلالها المعارف الأوروبيّة إلى مِصر، وأدخلَها في حلبة المُنافسة في مجالاتِ التّقدم العلميّ والاجتماعيّ.
    • إرسالُ البعثات التّبشيريّة التي أدّت إلى تنشيطِ الحركة التّعليمية والثّقافية.
    • الاستشراق، وهو عبارة عن قيام مجموعةٍ من علماءِ الغرب بالتّعمق في دراسة لغة الشّرق، وتاريخِه، وتراثِه، وعلومِه. وقد مَرَّ الاستشراق بثلاثِ مراحلَ أساسيةٍ وهي:
      • دراسةُ الفكر العربيّ و أداب اللّغة العربيّة، وكان ذلك في الفترة السّابقة لقيامِ النّهضة العربيّة.
      • وضوحُ غرضِ هؤلاء العلماء من الاستشراق، وتراوحت بين استعماريّة ودينيّة.
      • في المرحلة الثّالثة استيقظ أهل الشّرق واستوعبوا الأهدافَ الاستشراقيّة، فنهضَ العلماءُ العرب وشكلّوا عائقاً يمنعُ وصولَ المستشرقين إلى أهدافهم.
    • النّهضة القوميّة والوطنيّة التي تُمكّن المصريون بعد زوال الحملة الفرنسيّة على مِصر من التيقّظ لمدى خطورةِ الاستعمارِ على الوطن وقيم ومعتقداتِ الأُمّة العربيّة، وكانت نتيجة هذه اليقظة الوطنيّة في نفوسهم:
      • الاعتزاز بالروح الوطنية القومية وتعزيزهما وترسيخهما.
      • التَّلهُف إلى طلبِ المعرفةِ والاندفاعِ للاستفادة منها والبحث عنها.
    • الدّفاع عن هويّةِ الأمّة العربيّة والحفاظ عليها من الاندثار والتّمسك بها.

مظاهر النّهضة العربيّة

  • حركات الإصلاح الإسلاميّ: ركّزت حركات الإصلاح الإسلاميّة التي قام بها قادة النّهضة على عدّةِ نقاطٍ رئيسيّة لدرءِ الشُّبُهاتِ والخُرافات التي تَمَّ إلصاقها بالإسلام، ومن أبرز ما ركّزت عليه هذه الحركات:
    • توحيدُ المسلمين بالعودةِ إلى القرآن الكريم والسّنة النّبوية الشّريفة.
    • تخليصُ الدّين الإسلاميّ ممّا عَلِق به من خرافاتٍ وبدعٍ من صنع البشر على مرّ العصور.
    • الحثّ على الجهادِ ضدّ الاستعمار.
  • الاتّجاه الوطنيّ: ساهمت الوطنيّةُ في غرسِ حُبّ النّهضةِ بالبلاد وتطويرها وبذل الجهود وتوحيدها لتحقيق تقدُّمها وتحريرها، ومن أبرز العوامل:
    • اتّساع دائرة التّعليم وانتشاره في كافّة أنحاءِ البلاد.
    • إرسال البعثات العلميّة المِصريّة إلى أوروبا.
    • تقدّم وتنشيط حركةِ التّرجمة والتّأليف.

ومن أشهرِ مَن بَرَزَ في هذا الاتّجاه: بطرس البستانيّ الذي رفع شعار “حبُّ الوطنِ من الإيمان”، والشّيخ رفاعة الطّهطاوي مؤسس مدرسةِ الألسن في مِصر.

  • الاتجاه العربيّ الإسلاميّ: تزامَنَ مرورُ أصعب وأخطر مرحلةٍ على الدّولة العثمانيّة مع النّهضة العربيّة في القرن التّاسع عشر، حيث كانت حينها الدّولة في ذلك الوقت تمرُّ بمرحلة تدهورٍ غير مسبوقٍ، ممّا أدّى إلى تجزِئَتها وانفصالها إلى دويلاتٍ، فدفع هذا الأمرُ الدّولَ الأجنبيّة الكُبرى للتّدخل بها بشكلٍ مباشرٍ، وفي محاولةٍ من السّلطان عبد الحميد في انقاذِ بلادِه من الانهيارِ عَملَ على ترسيخِ دعائم حكمِهِ وذلك من خلال قيامِه بتبَنّي حركة الجامعةِ الإسلاميّة، وكان يسعى لكسب وِدِّ المسلمين ودعوتِهم للالتفاف حولَه حتى يتّخذوه رئيساً روحيّاً لهم، إضافةً إلى الوقوف وقفةَ رجلٍ واحدٍ وإثارة المسلمين وتوجيهِ ضربةً قاضيةً للدّول الاستعماريّة بالتّهديد والتّنفيذ لاسترجاعِ الدّول المُستعمَرة.
  • بدايةُ ظهورِ سمات النّهضة في عدّة مجالاتٍ.
  • بدايةُ ظهور سمات النّهضة الصّناعية والاقتصاديّة والسّياسية: شهدت مدينةُ حِمص السّورية في عصرِ النّهضة العربيّة ازدهاراً بلغَ أَوْجَهُ؛ فقد حظِيَت بلقب “مانشستر السّورية” والذي أطلَقَه عليها القنصلُ البريطانيّ نظراً لاشتهارِها بازدهار القطاع الاقتصاديّ، حيث عَملَ في قطاع المنسوجاتِ حينها ما يقاربُ خمسةُ آلافِ عاملٍ، بالإضافة إلى رُسُوِّ عشرين باخرةٍ تجاريةٍ على موانئ اللّاذقية لتنقلَ التّبغ اللّاذقاني إلى أوروبا، وشهدت افتتاح بنوكٍ فرنسيّة وإنكليزيّة، وتصديرِ منتوجاتٍ زراعيّة وصناعيّة، أما في المجال السّياسي فقد بدأت الجمعيّاتُ السّياسية (الأحزاب) بالظّهور، ومن أكثر رجالِ السّياسة شهرةً في تلك الفترة عبد الرّحمن الكواكبيّ وساطع الحصريّ.
  • بدايةُ إنشاء المكتبات والجامعات والمسرح: ساهمت النّهضةُ في إعادة تدشينِ المكتباتِ القديمة وتنظيمها من جديٍد، حيث تَمَّ في عام 1880م إعادة افتتاحِ المكتبة الظّاهرية في دمشق والتي أُطلقَ عليها فيما بعد اسم “دار الكتب الوطنيّة”، وفي العام ذاته شهدَت بيروت تأسيساً للمكتبة الشّرقية، وافتتاح جامعاتٍ ومدارسَ في سوريا، بالإضافة إلى الجامعة الأمريكيّة، أما في بيروت فقد تَمَّ افتتاح جامعة القدّيس يوسف، وفي العراق جامعة الحكمةِ، وشهدت تلك الفترة بدايةَ ظهورِ ونشأةِ المسرح العربيّ، ويعود الفضلُ في ذلك إلى رائدِ المسرح العربيّ أبو خليل القبّاني.
  • إنشاء أوّل مجمعٍ للّغة العربيّة.
  • تأسيسِ الرّابطة القلميّة على يد أحد رجالِ الدّين المسيحيّ عبد المسيحِ حدّاد.
  • برزَ في مجالِ الأدبِ العربيّ من الدّيانة المسيحيّة كلّ من جبران خليل جبران، ميخائيل نُعيمة، ميّ زيادة وغيرهم.

أعلام النّهضة العربيّة

من أبرزِ أعلامِ النّهضة العربيّة ورجالاتِها الذين يعود لهم الفضلُ في قيامها والحثّ عليها: أحمد لُطفي السّيد، العربيّ التّبسي، الفضيل الورتيلاني، بطرس البستانيّ، جمال الدين الأفَغَانيّ، حمزة شحاتة، عباس محمود العقاد، عبد الحميد بن باديس، عبد الرّحمن الكواكبيّ، مصطفى لطفي المنفلوطيّ، محمد البشير الإبراهيميّ، شيلي شميل، نيقولا حدّاد، الإمام محمد عبدُه ،أبو راس النّاصري.

زر الذهاب إلى الأعلى